كتاب المنهاج في شعب الإيمان (اسم الجزء: 2)

من أصناف الناس، وإن كان عربيًا ولا يعرف لسانه إلا العرب، وإن القوم الذين بعث فيهم النبي إذ كانوا يعرفون لسانه كان في ذلك كفاية، فإن جهل غيرهم لسانه لم يخلوا من أن يكون فيهم واحدًا وأكثر على لسان غير العرب، لأن الناس لن يزالوا متخالطين وإن تنأى ديارهم ولا يحد بعضهم من بعض بل أنهم يتلاقون ويتخالطون وإن حالت بينهم البوادي والبحار، ولا سبيل مع التخالط إلى قضي ما في نفوس من الأوطار إلا التخاطب، ولا معنى للتخاطب من غير التفاهم، فكان اغوار من يؤدي إلى الأعاجم من العرب ممتنعًا بعيدًا، ولاسيما إذا كانت الدعوة إنما يقصد بها الملوك، ثم يكون غيرهم تبعًا لهم وما من ملك إلا وقد أعد فيما أعد لنفسه من يترجم له وعنه، ما لا يفهمه من لسان غيره عنه من لسانه. وفي ذلك ما لا يدفع الاستحالة عن عموم دعوة النبي عليه السلام الناس كلهم من حيث إن ما عدا العرب لا يفهمون عنه، إذ قد ثبت أن اتهامهم كان ممكنًا من الوجهين اللذين ذكرناهما، وبين أن الاستحالة إنما هي في جهل الرهط الذي يختصون بالشيء ويكون بعينه فيهم بلسانه في جهل من عداهم الذين جعلوا إتباعا وبالله التوفيق.
وأيضًا فإن الذين علمهم الله تعالى من الأولين الطب والحساب وعلم الهيئة، ولم يعلمهم ذلك ليختصوا به ويستأثروا بإدراكه دون غيرهم من عباد الله تعالى، وإنما علمهم لينتفعوا به وينفع من يحتاج إليه من الناس. ومعلوم أن أكثر الناس لم يكونوا يعرفون لغاتهم ومع ذلك تأدى ما كان عندهم إليه فعرفوه، وشملت حكم الله ونظره العباد كلهم بما علمه بعضهم من العلوم التي ذكرناها، فلا ينكر لذلك أن تشملهم رحمته وبصرهم بالمصطفي صلى الله عليه وسلم فيكون رسولاً إليهم وينادي بما أرسل عنه إلى قومه، وإلى الذين لا علم لهم بلسانه كما فادت العلوم التي ذكرنا عن الذين علموا بها إلى غيرهم الذين لم يكونوا يعرفون لسانهم والله أعلم.
وقال قائل: إن كان الأمر على ما وصفتم، أفكان نبيكم رسولاً إلى يأجوج ومأجوج قبل كان التبليغ، أو كان رسولاً إلى إبليس ليبلغه؟
قيل له: إنه كان لا يقوم لدعي خصومه برسالته حجة أبدًا، وذلك لأنه اعترف بأنه كان رسولاً إلى الرعب، لزمه أن يبرئه وينزهه عن الكذب فإن الكذاب لا يكون نبيًا. وإذا لزمه ذلك وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي وإلى هرقل وإلى كسرى يدعوهم

الصفحة 81