كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

{قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُوْنَ} لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فيها الأطوارَ التي مَرَّ بالإنسان عليها إلى حالتِه هذه؛ حيث قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: الآيات 12 - 16].
وعلى هذا: فالمُستقَر: هو القرارُ المكينُ الذي يَجْعَلُ اللَّهُ فيه الإنسانَ في رحمِ أُمِّهِ بعدَ أن خَلَقَ آدمَ من ترابٍ، كما قال في آيةِ (قد أفلح) هذه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13)} يعني: رَحِمَ أُمِّهِ. وهذا نبهنا الله عليه، وَحَذَّرَنَا أن ننصرفَ عن هذا، وأن نغفلَ عنه؛ لأنكم كُلَّكُمْ تعلمونَ أن الواحدَ منا لم يدخل رحمَ أمه مُخَطَّطًا، وليس فيه يَدٌ ولا رِجْلٌ ولا رأس ولا عَيْنٌ، بل يدخل رحمَ أمه وهو نطفةٌ من مَنِيٍّ، ثم إن الخالقَ (جل وعلا) ينقلُ بقدرتِه تلك النطفةَ فيجعلُها دَمًا جَامِدًا، وهو الْمُعَبَّرُ عنه بـ (العلقةِ)، ثم يقلبُ ذلك الدمَ مضغةَ لَحْمٍ ليس فيها تخطيطٌ، ولا رِجْلٍ ولا يَدٍ، ثم إنه يقلبُ تلك المضغةَ هيكلَ عظامٍ، ويرتبُ هذه العظامَ بعضَها ببعضٍ هذا الترتيبَ المُحْكَمَ المتقنَ الذي يجدُه الواحدُ منكم، فيرتبُ السُّلاَمِيَّاتِ في السُّلامياتِ، والمفاصلَ بالمفاصلِ، وَفَقَارَى الظَّهْرِ بِفَقَارَى الظَّهْرِ، ويجعلُ هذه العظامَ على أُمِّ الدماغِ، فيجعلُ له دماغَه في هذا الغلافِ الذي هو أُمُّ الدماغِ، ويفتحُ في وجهِه العينين، ويصبغُ بعضَهما بصبغٍ أسودَ وبعضهما بصبغٍ أبيضَ، ويزينها بِشَعْرِ الحواجبِ والجفونِ، ويجعلُ فيهما حاسةَ البصرِ، ويفتحُ له الأنفَ، ويجعل فيه حاسةَ الشَّمِّ، ويفتحُ له الفمَ، ويجعلُ فيه

الصفحة 10