كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

العجيبِ الذي ينزلُ رَشَاشًا؟ فلو كَانَ مُنْزِلُهُ أخْرَقَ لأَنْزَلَهُ قطعةً واحدةً مُتَّصِلاً بعضُه ببعضٍ. ولو نَزَلَ المطرُ الغزيرُ قطعةً واحدةً لأَهْلَكَ كُلَّ مَنْ سَقَطَ عليه، وَتَرَكَ الخلقَ أَثَرًا بعدَ عَيْنٍ؛ لأَنَّ اللَّهَ تعالى بَيَّنَ كيفيةَ إنزالِه إياه، وما في ذلك مِنَ الغرائبِ والعجائبِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: آية 43]، الوَدْقُ: المطرُ يخرجُ من خلالِ السحابِ، أي: مِنْ فتوقِ الْمُزْنِ وثقوبِه التي جَعَلَهَا اللَّهُ فيه، وهو إنما يأتي به قَادِرٌ يُصَرِّفُهُ كيفَ شَاءَ. ولكن اللَّهَ بَيَّنَ في السورةِ الكريمةِ - سورةِ الفرقانِ - أنه يُنْزِلُ الماءَ هذا الإنزالَ الهائلَ الغريبَ العجيبَ، وأن كَثِيرًا من الناسِ يَأْبَى في هذه الغرائبِ والآياتِ إِلاَّ الْكُفْرَ - والعياذُ بالله -؛ لأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: الآيات 48 - 50]، يعني: صَرَّفْنَا الماءَ بينَ الناسِ، تارةً نُغْدِقُ المطرَ على قومٍ لِتُخْصِبَ أرضَهم، وَتُنْبِتَ زُرُوعَهُمْ، ويكثر خيرُ مواشيهم، اختبارًا لهم وابتلاءً هل يشكرونَ نِعَمَنَا؟ ونَصْرِفُهُ عن قومٍ كانوا في خِصْبٍ حتى يُجْدِِبوا؛ لنختبرهم بذلك الجدبِ والفقرِ وهلاكِ المواشي والزروعِ: أيتعظون، وَيُنِيبُونَ إلينا؟
وَلَمَّا قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} قال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: آية 50]، وَمِنَ الناسِ الذين أَبَوْا إِلاَّ كُفُورًا: الكفرةُ وأذنابُ الكفرةِ الذين يزعمونَ أن السحابَ لَمْ يُنْزِلُهُ مَلَكٌ مُقْتَدِرٌ، وإنما هي طبائعُ، وأن الماءَ تَتَفَاوَتُ عليه درجاتُ الشمسِ، أو احتكاكُ الهواءِ حتى يتبخرَ وتتصاعدَ أبخرتُه، فتتجمعُ ثم تُلاَقِي هواءً حارًّا، ثم تُزَعْزِعُهَا الريحُ فَتُفَرِّقُهَا، وأن هذا ليس فعلَ فاعلٍ!! هؤلاء الذين يقولُ اللَّهُ فيهم:

الصفحة 19