كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

وذكرنا مراراً أن رئيسهم الكبير عَمْرو بن عبيد -الذي يطريه الزمخشري غاية الإطراء، والذي رثاه أبو جعفر المنصور؛ لأنه توفي في خلافته، وهو من رؤساء وكبراء المعتزلة المشهورين- أفحمه بدوي جاهل، لا يعرف شيئاً؛ لأن الكبير العالم من أهل الإلحاد والضلال قد يُفْحِمُه العامِّي من أهل الحق، لظهور دلالة الحق؛ ذلك لأنه لما سُرقت دابته، وجاءه يسأل منه الدعاء أن يَرُدَّها الله عليه، وأراد التقرب بهذا المذهب، وقال: اللهم إنها سُرقت ولم تُرِدْ سَرِقتها، ولم تكن سَرِقَتُهَا بمشيئتك؛ لأنك أنزه وأعْظَم وأكْرَم وأجَلّ من أن تكون هذه الخسيسة بمشيئتك، ففهم البدوي الجاهل، وقال له: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث، إن كانت قد سُرقت ولم يُرد سرقتها فقد يُريد رَدَّها ولا تُرَدّ! فإن كان أول الأمر ليس بمشيئته فَلَسْتُ بواثق منه في آخر الأمر؛ لأن الرَّبَّ لا بد أن يكون كل شيء بمشيئته أولًا وآخراً، فأَفْحَمَه وألْقَمَهُ الحَجَرَ (¬1).
والحاصل أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام أخْبَرَ الله فيها أن الكفار سيقولون: إن كُفْرَهُمْ وتَحْرِيمَهُم للحلال بمشيئة الله، وأن وقوعه بمشيئة الله دليل على رضاه به! فكذّبهم القرآن، والتكذيب مُنْصَبٌّ على أن كون ذلك بمشيئته لا يدل على رضاه، فلا يقع شيء إلا بمشيئته، ولا يرضيه إلا ما كان طاعة له، كما قال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: الآية 7] لأنه صرف قُدَر الخلق وإراداتهم إلى ما سبق به العلم الأزلي، فأتوه طائعين، فما كان إيماناً وطاعة فهو مرضي عند الله، وما كان كفراً وعصياناً فهو غير مرضي عند الله، وإن
¬_________
(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.

الصفحة 424