كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

ما يُبْهِرُ العقولَ، كيف جعل هذا النورَ الذي يَشِعُّ لهذا الِإنسانِ يجتلب عليه جميعَ مصالحِه، ومن ذلك - من الظاهرِ الواضحِ - أنه جَعَلَ للعينِ شحمةً لئلا يُجَفِّفَهَا الهواءُ والريحُ، وجعل ماءَ العينِ مِلحًا لئلاَّ تُنْتِنَ الشحمةُ، لأن الملحَ يزيلُ النتنَ، وَصَبَغَ له بعضَها بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وفتحَ له فَمًا، وجعل له عينًا عذبةً من الريقِ يأكلُ بها الطعامَ، لو جَفَّ رِيقُهُ لَمَا قَدَرَ أن يبتلعَ الزبدَ الذائبَ، ومن كمالِ قدرةِ اللَّهِ أن الريقَ إذا كان يأكلُ به يبُل به الطعامَ ويبتلعُه ويجم له الريق، وإذا كان غيرَ وقتِ الحاجةِ ينقطعُ عنه الجَمُّ؛ لئلا يُتْعِبَهُ التفلُ. فلو جَعَلَ له عَيْنَيْهِ في قدميه لَمَا رَأَى بهما شيئًا، ولو جعلَه عمودًا واحدًا كالخشبةِ من غيرِ مفاصلَ لَتَعِبَ، رَتَّبَ بعضَ مفاصلِه ببعضٍ لِيَنْثَنِيَ، وَرَتَّبَ فقراتِ الظهرِ بعضَها ببعضٍ، وفرَّق له أصابعَ يديه، لو جَعَلَ يدَه ملتصقةً كيدِ البعيرِ لَمْ يَحُلَّ شيئًا ولم يَعْقِدْ شيئًا، وَشَدَّ له رؤوسَ أصابعِه بالأظفارِ، وأودعَ فيه من الغرائبِ والعجائبِ شيئًا يُبْهِرُ العقولَ.
ونحن نلفتُ أنظارَ إخوانِنا دائمًا لِمَا لفتَ اللَّهُ أنظارَنا إليه، بِأَنَّ كُلَّ هذه العملياتِ - أيها الِإخوانُ - عَمِلَهَا ربُّنا فينا من غيرِ أن يشقَّ بطنَ أمهاتِنا، ولا أن يخيطَها، كُلُّ هذه العملياتِ الهائلةِ والأُمُّ بطنُها لم يُشَقَّ، ولم يَحْتَجْ إلى أن تُبنج، ولا أن تنومَ في صحيّة، يعملُه خالقُ الكونِ وهي لا تدري: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} [آل عمران: آية 6].
وهذا نُنَبِّهُ الناسَ إليه دائمًا؛ لأَنَّ اللَّهَ يُعجِّبُ خلقَه منهم كيفَ ينصرفونَ عن هذا؟!! حيث قال في السورةِ الكريمةِ سورةِ الزمرِ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6].

الصفحة 43