كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

بمعرفة الواقع، فنحن جميعاً هؤلاء موجودون، كل واحد منا يُقال له فلان بن فلان، يُنسب إلى أبيه، وتكون أخوات أبيه عماته، ويرث في أبيه، ونحن لا نجزم قطعاً بأن كل واحد منا مخلوق من ماء أبيه، فقد تكون بعض النساء فاجرة، وتدخل لزوجها ولداً من غيره، وهذا الظن يُحكم له بالقطع، والله أمرنا بالبيِّنَة، قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية 2] فنحن نُشهد العَدْلَيْنِ، ونقتل المسلم بشهادة عَدْلَيْنِ، ولو سُئلنا: هل أنتم جازمون في نفس الأمر أنهما صادقان؟ لقلنا: لا والله، لا نجزم؛ لأنهما غير مَعْصُومَيْنِ، ويجوز في حقهما الكذب، ولكننا نظن ظنّاً غالباً لعدالتهما أنهما صادقان، فإن كانا صادقين فذلك، وإن كانا كاذبين فعليهما، ونحن نبْرَأُ من ذلك.
ومن هذا المعنى ثَبَتَ في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أم سلمة أم المؤمنين -رضي الله عنها- هند بنت أمية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» (¬1) هذا حديث ثابت في الصحيحين، بَيَّنَ فِيهِ النَّبِيّ أنه ليس على يقين أن ما يقضي به مطابق للواقع في نفس الأمر، بل هو يقضي على نحو ما يسمع من ظواهر الدعاوي والبيِّنَات، وقد يكون الأمر مخالفاً في باطن الأمر؛ ولذا قال: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ».
¬_________
(¬1) أخرجه البخاري في المظالم، باب: إثم من خَاصَمَ في باطل وهو يعلمه، حديث رقم: (2458)، (5/ 107)، ومسلم في الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، حديث رقم: (1713)، (3/ 1337).

الصفحة 432