كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

{قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: الآية 149] إن احْتَجَجْتُمْ بأمور باطلة وشُبَه كاذبة فلِلَّه الحجة البالغة على خَلْقِهِ، وليس لأحد حجة على الله. والبالغة معناه: هي التي يبلغ بها صاحِبُهَا غَرَضَه لإِفْحَامِ خَصْمِه، وإظهار الحق. والعلماء يقولون: هذه الحجة البالغة هي إرسال الرسل، وإقامة المعجزات، وبيان أنه (جل وعلا) واحد لا شريك له.
وظاهر القرآن يدل على أن هذه الحجة البالغة على مذهب الجبرية هي قوله جل وعلا: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فهذا داخل فيها دخولاً أوليّاً؛ لأن مُلْك التوفيق حجة بالغة على الخلق، وهذه الآية هي التي احتج بضمنها أبو إسحاق على عبد الجبار؛ لأنه كأنه قال له: مُلكه تعالى للتوفيق حجة بالغة على خلقه، فتمام الحجة البالغة أنك إذا قارنت بين سُنِّي- مثلاً- وجبري، فقال الجبري: إن كفره -والعياذ بالله- ومعاصيه كُتِبَ عليه في الأزل قبل أن يُولد، وإن الأقلام جفت، والصحف طُويت، وما كان فقد كان، ولم يبق شيء حادث إلا وقد سبق في الأزل، فيقول هذا الجبري الكافر: إن كفر البعيد قد كتبه الله عليه أزلاً، وإنه لو شاء أن يتخلص من ذلك المكتوب أزلاً لما كانت له القدرة؛ لأن علم الله الأزلي لا يَتَغَيَّر، فيقول البعيد: هو مقهور، وإذاً هو مجبور!! فله حجة في زَعْمِهِ على ربه، فكأن ربه يقول: جميع الأسباب التي اهتدى بها المهتدون أعطيتك إيَّاهَا، فالأعين التي أبصروا بها سمائي وأرضي وجبالي وبحاري وحدائقي وحيواناتي حتى عرفوا بها قدرتي، وأني رب كل شيء، وأني المعبود وحده، أعطيتك عيوناً مثلها، والآذان التي سمعوا بها مواعظي وآياتي وكتبي عن الرسل أعطيتك مثلها،

الصفحة 435