كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

والقلوب التي عقلوا بها عن الله، وعرفوا مخالفة الخالق للمخلوق، وعرفوا بها عظمة جبار السماوات والأرض، وأنه جدير بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى أعطيتك قلباً مثل قلوبهم، فكل ما أعطيت المهتدين من أسباب الهداية أعطيتك مثل ما أعطيتهم، إلا خصوصية التوفيق، فقد تفضلت به على قوم ولم أتفضل به على آخرين، فمن تفضلت به فهو فضل مني، ومن لم أتفضل به فهو عدل مني، كما قال أبو إسحاق: «إن كان الذي منعك حقّاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان مُلكه المحض فإن منعك فَعَدْل، وإن مَنَحَك ففضل» (¬1).
ولذا قال هنا: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} على خلقه، وهي ما أنذرهم به من الإنذار، وما أرسل لهم من الرسل، وما أعطاهم من العقول والأسماع والأبصار {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} [النحل: الآية 78] {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: الآية 149] لأنه قطع عُذر عبده بأن أعطاه كل ما أعطى المهتدين: إلا خصوص التوفيق، فهذا الذي منعه، وبملكه للتوفيق قامت حجته البالغة؛ ولذا أَتْبَعَه بقوله: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فلو شاء لمَنَحَكُمْ التوفيق كُلاًّ، ولكنه تفضل به على بعض، ولم يتفضل به على الآخرين، فَمَنْ تَفَضَّل به عليهم فهو فضل، ومن منعهم إياه فهو عَدْلٌ لا ظُلْمَ فيه؛ ولذا قال: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ومفعول المشيئة محذوف، وقد ذكرنا مِرَاراً أن فعل المشيئة إن كان معلقاً بشرط فإنه يكفي عن مفعوله جزاء الشرط (¬2). والأصل: فلو شاء
¬_________
(¬1) مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.
(¬2) مضى عند تفسير الآية (106) من هذه السورة.

الصفحة 436