كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

أنتم كُلاّ تعلمونَ أن الواحدَ منكم يدخلُ رَحِمَ أُمِّهِ ليس مُخَطَّطًا مفصلاً، ليس فيه رأسٌ ولا يدٌ ولا رجلٌ ولا عظمٌ، نطفةُ ماءٍ من مَنِيٍّ، ثم الله (جل وعلا) يخلقُ هذا الْمَنِيَّ دَمًا، ثم يخلقُ الدمَ علقةً، ثم يخلقُ الدمَ مضغةً، ثم المضغةَ عظامًا، إلى آخِرِ ما ذَكَرَ. ويخططُكم هذا التخطيطَ، ويفصلكم هذا التفصيلَ، ويفتحُ لكم العيونَ، والأفواهَ والآنافَ والأسماعَ، ويجعلُ في العينِ حاسةَ البصرِ، وفي اللسانِ حاسةَ الذوقِ، وفي [الأُذُنِ] حاسةَ [السمعِ] (¬1) إلى غيرِ ذلك. ويُرَتِّبُ - أيها الإخوانُ - هذه العظامَ والسُّلامياتِ هذا الترتيبَ الغريبَ العجيبَ {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: آية 28] الأَسْرُ: معناه شَدُّ الشيءِ بالشيءِ وإلصاقُه به؛ إِذْ لو كان الذي ألصقَ هذه العظامَ والسُّلاميات بعضَها ببعضٍ، بل ولو لم يَجْعَلْهُ قَوِيًّا مشدودًا لقالوا: سَقَطَتْ يدُ فلانٍ البارحةَ، وَسَقَطَتْ رِجْلُهُ، وطاحَ فَخِذُهُ؛ لأنه لم يكن مَشْدُودًا!! لا، شَدَّهُ خالقُ السماواتِ والأرضِ، وألصقَ العظامَ بعضَها ببعضٍ، والغضارفَ بالعظامِ واللحمِ، وشدَّ هذا شَدًّا مُحْكَمًا: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)} [الإنسان: آية 28].
الشاهدُ أن الله نَبّهَنَا على فِعْلِهِ فينا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: آية 21]، وَبَيَّنَ لنا أنَّا ندخلُ بطونَ أمهاتِنا نُطَفَ ماءٍ؛ وَلِذَا قال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] ينقلكم من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: الآيتان 13، 14] وهذا كُلُّهُ والواحدُ في ظلماتٍ ثلاثٍ:
¬_________
(¬1) في الأصل: «وفي السمع حاسة الأذن» وهو سَبْقُ لسانٍ.

الصفحة 44