كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} [الزمر: آية 6] ظلمةِ البطنِ، وظلمةِ الرَّحِمِ، وظلمةِ المشيمةِ، لم يَحْتَجْ خالقُ السماواتِ إلى أن يشقَّ البطنَ، ويشقَّ الرحمَ، ويزيلَ المشيمةَ التي على الولدِ، حتى يتمكنَ بصرُه، لا، بَصَرُهُ (جل وعلا) وعلمُه نافذٌ، يفعلُ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ولم تَمْنَعْهُ من ذلك الظلماتُ الثلاثُ، ثم قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو} ثم قال - وهو محلُّ الشاهدِ -: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} [الزمر: آية 6].
{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} أين تُصْرَفُ عقولُكم، وتذهبُ عن فعلِ خالقِكم جل وعلا فيكم؟! ولذا قال (جل وعلا): {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: آية 16] وقد بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، أشارَ لِخَلْقِهِ للِإنسانِ كما كُنَّا نقولُ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] وهذا الخلقُ بعدَ الخلقِ، والطَّوْرُ بعدَ الطَّوْرِ، المذكورُ في قولِه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)} [نوح: آية 14]، بَيَّنَهُ (جل وعلا) في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: الآيات 12 - 14] هذه أفعالُ اللَّهِ جل وعلا فِينَا الدالةُ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا) (¬1)؛ وَلِذَا قال: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} يعني: أَنَّ مَنْ فَعَلَ هذه
¬_________
(¬1) مضى نحو هذا البسط عند تفسير الآيتين (98،92) من سورة الأنعام، وسيأتي نحوه عند تفسير الآيتين (11، 45) من سورة الأعراف، والآية (38) من سورة التوبة.

الصفحة 45