كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

القرب منها مظنة للوقوع فيها، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه (¬1)، وهذه الآية الكريمة من الأدلة القرآنية على وجوب سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ لأن القرب من الشيء ذريعة للوقوع فيه، فإذا نُهي عن القرب منه كان ذلك سَدّاً لذريعة الوقوع فيه، وقد أجمع العلماء على وجوب سَدِّ الذَّرَائِعِ في الجملة، ودل عليه في الجملة الكتاب، والسنة، والإجماع (¬2).
وتفصيل ذلك: أن الذرائع عند علماء الأصول ثلاثة أقسام: قسم يجب سَدُّه بِإِجْمَاعِ المُسْلِمين، وقسم لا يجب سده بإجماع المسلمين، وواسطة هي محل الخلاف، هي المعروفة عند أهل الأصول بـ (الذريعة الوسطى) التي لم تبلغ درجة المُجْمَع على سَدِّهِ ولم تتنازل إلى درجة المُجْمَع على عدم سده، أما المُجمَع على وجوب سَدِّهِ فهو الذي يكون ذريعة إلى الحرام، ويكون ارْتِكَابُهُ مظنة للوقوع في الحرام، وهذا ممنوع بإجماع العلماء، ومن أمثلة هذا القسم المجمع على سده: سب الأصنام إذا غلب على ظن مَنْ سَبَّهَا أن عَبَدَتَها يسبون الله، وقد قدمنا هذا في هذه السورة في قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: آية 108] فسب الأصنام بالنظر إلى ذاته طيب حلال كماء المزن، إلا أنه إن كان ذريعة لِأَنْ يَسُبَّ عبدتُها اللهَ كان حراماً؛ لأنه ذريعة إلى أن يُسَبَّ الله، والذريعة إلى هذا المنكر الأكبر يجب سدها، ومِنْ هذا القسم: أن يشتم الرجل أبَا رَجُل أو أمه، وهو عالم أن ذلك الرجل يَنْتَقِم منه فيسب أباه -انتقاماً- وأمه؛ لأن هذه ذريعة إلى أن يتسبب الرجل في أن يُذم أبوه أو أن تُذم أمه، والواجب عليه برهما
¬_________
(¬1) انظر: فتح المجيد 389.
(¬2) مضى عند تفسير الآية (108) من هذه السورة.

الصفحة 476