كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

خَلَق العقل وأبْرَزَهُ مِنَ العدم إلى الوجود، أنه أعلم بموضعه من كَفَرَةِ الفَلَاسِفَة الذين يَتَحَكَّمُون على الله ويخالفونه من غير دليل ولا برهان، وهؤلاء الذين ينفون هذا؛ لأنهم يقولون -زعموا- أن بعض الناس صار يُجعل له قلبُ واحدٍ آخر، ولو أن هذا -لو فرضنا- صح، وأنه يدل على أن العقل ليس في القلب، فهذا لا دليل فيه؛ لأن العقل أصله نور روحاني -آلة للنفس- تُدْرِكُ بِهِ النَّفْسُ العُلُومَ الضَّرُورِيَّة والنظرية، ومحله القلب الذي في الصدر، كما قال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] فَلَوْ فرضنا أن الله خرق العادة وأزال القلب، ولم يمت الإنسان، لم يمنع أن يكون العقل باقياً في محله الذي كان فيه، وقد زالت الأداة الذي كان فيها.
وكذلك لو جُعل قلب آخر، فقد دل القرآن في سورة النور أن القلب كأنه زجاجة، ونور الإيمان فيها الذي يُضاء به كأنه نور، وإذا انكسرت الزجاجة فلا مانع من أن تأتي زجاجة أخرى ويكون فيها النور الذي كان في الزجاجة التي قبلها، وعلى كل حال فلا أحَدَ أصْدَق من الله ولا مِنْ رَسُول الله {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} [البقرة: آية 140] والله يقول في نبيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4] وقد صرح الله ونبيه أن العقل محله القلب، ومن خلق العقل أعلم بمحل العقل، ونحن نعرف أن جميع ما يُؤثِّر على الدماغ يُؤثِّر على العقل، وهذا لا يقتضي أن يكون محل العقل الدماغ؛ لأنه كَمْ مِنْ مَوْضِع من الجسد إذا اخْتَلَّتْ خَانَة من خانات الدماغ اختل ذلك الموضع، وليس يلزم أن ذلك الموضع المختل كان محلُّه في الدماغ، بل هو خارج عن الدِّمَاغ، مشروط بسلامة الدماغ، فالعقل محلّه القلب، ولكن سلامته مشروطة بسلامة

الصفحة 503