كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

من حيثُ هُمَا سمعٌ وبصرٌ يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ - ولله المثل الأعلى - فكأَنَّ اللَّهَ يقولُ: لا تَتَنَطَّعْ يا عَبْدِي يا مسكينُ فتنفي عَنِّي صفةَ سَمْعِي وبصري، مُدَّعِيًا أن المخلوقاتِ تسمعُ وتبصرُ. وأنك إن أَثْبَتَّ لِي سَمْعِي وبصري كُنْتَ مُشَبِّهًا لي بالمخلوقاتِ التي تسمعُ وتبصرُ. لا، وكَلاَّ!! أَثْبِتْ لِي سمعي وبصري، مُرَاعِيًا في ذلك الإثباتِ: تَنْزِيهِي، وقولِي قبلَه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فجميعُ الصفاتِ من هذا البابِ الواحدِ. فأولُ الآيةِ - أعني: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يدلُّ على التنزيهِ الكاملِ عن مشابهةِ المخلوقين من غيرِ تعطيلٍ، وقولُه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} يَدُلُّ على الإيمانِ بالصفاتِ إيمانًا حَقًّا على أساسِ التنزيهِ، من غيرِ تشبيهٍ ولا تَمْثِيلٍ.
فالأساسُ الأولُ من هذه الأُسُسِ الثلاثةِ: هي تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ المخلوقين في صفاتِهم وذواتِهم وأفعالِهم.
الأساسُ الثاني: هو أن لاَ تُكَذِّبَ اللَّهَ فيما أَثْنَى به على نفسِه؛ لأنه لا يَصِفُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: آية 140] ولاَ يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بالله من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي قال في حَقِّهِ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3، 4].
فَعَلَيْنَا أَوَّلاً أن نُطَهِّرَ قلوبَنا من أقذارِ التشبيهِ، وأن نُنَزِّهَ خالقَ السماواتِ والأرضِ عن أن تُشْبِهَ صفتُه صفةَ خلقِه، ثم إذا طَهَّرْنَا القلوبَ من أقذارِ التشبيهِ، ونَزَّهْنَا خالقَ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، سَهُلَ علينا الإيمانُ بصفاتِه - صفاتِ الكمالِ والجلالِ - إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ وعدمِ المماثلةِ، على غِرَارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11)} [الشورى: آية 11].
الأساسُ الثالثُ من هذه الأسسِ: هو قَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفياتِ؛ لأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ كيفيةَ الشيءِ فقد أَحَاطَ به، وَاللَّهُ يقولُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110].
فهذه الأُسُسُ الثلاثةُ التي هي: تنزيهُ اللَّهِ عن مشابهةِ خلقِه، والإيمانُ بصفاتِه الثابتةِ في كتابِه وسنةِ رسولِه، إِيمَانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، وقَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفيةِ. هذا معتقدُ السلفِ الذي كان عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤُه الراشدونَ. لاَ يُفَسِّرُونَ صفاتِ اللَّهِ إلا بدليلٍ جليلٍ لائقٍ مُنَزَّهٍ عن الأقذارِ ومشابهةِ الخلقِ، ولاَ يَنْفُونَ عن الله ما أَثْبَتَهُ لنفسِه، بل يثبتونَه له على أساسِ التنزيهِ، على غِرَارِ:

الصفحة 51