كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

وَمَنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَعَكْ ... شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَكْ

فعلى كُلِّ حالٍ اللطفُ: إيصالُ البرِّ والإكرامِ والإحسانِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على إيصالِه بالطرقِ الخفيةِ التي لا يَعْلَمُهَا كُلُّ الناسِ.
وَاللَّهُ (جل وعلا) لطيفٌ بخلقِه، مُحْسِنٌ إليهم، يدركُ حقائقَهم، ولا يَخْفَى عليه منهم شيءٌ، لطيفٌ إليهم، مُحْسِنٌ بَرٌّ بهم، يُوصِلُ لهم طرقَ الإكرامِ والبرِّ والإحسانِ من حيثُ لا يشعرونَ. وقولُه: {الْخَبِيرُ (1)} (فَعِيل) من الخُبرِ. و (الخبيرُ) في لغةِ العربِ لا يكادُ يُطْلَقُ إلا على العالِمِ بما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى، فلا يُطْلَقُ (الخبير) على العالِم بالظاهرِ غَالِبًا، وإنما يُطْلَقُ (الخبير) على مَنْ عَلِمَ شَيْئًا من شأنِه أن يَخْفَى، ومنه قولُ العربِ: «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ» (¬1) {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} [فاطر: آية 14]. فلو قُلْتَ مثلاً: «أَنَا خبيرٌ بهذا الأمرِ». وهو أَمْرٌ معنويٌّ يَخْفَى، كان كَلاَمًا عَرَبِيًّا. ولو قلتَ: «أنا خبيرٌ بأن الواحدَ نصفُ الاثنينِ» لم يكن هذا من لغةِ العربِ؛ لأن كونَ الواحدِ نصفَ الاثنين ليسَ من شأنِه أن يَخْفَى حتى يُعبَّرَ عنه بلفظِ (الخبيرِ). هذا هو معنَى قولِه: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. وكان بعضُ المتأخرينَ من العلماءِ يقولُ (¬2): {وَهُوَ اللَّطِيفُ} في استخراجِ الأشياءِ لقدرتِه عليها {الْخَبِيرُ (103)} بمكانِها، لا يَخْفَى عليه شيءٌ. والأولُ هو التفسيرُ المعروفُ، وهو المعروفُ في كلامِ العربِ. وهذا معنَى قولِه: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}.
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا
¬_________
(¬1) انظر: الأمثال لأبي عبيد 206.
(¬2) وهو قول أبي العالية. انظر ابن جرير (12/ 23).

الصفحة 60