كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 2)

ما تُقَدِّمُ من آياتِ البراهينِ، والحججِ القاطعةِ في هذه السورةِ الكريمةِ.
ومن إطلاقِ البصيرةِ على الدليلِ القاطعِ: قولُه جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: آية 108]، أي: على عِلْمٍ ودليلٍ واضحٍ وبرهانٍ قاطعٍ لاَ يَتْرُكُ فِي الحقِّ لَبْسًا. ومنه بهذا المعنَى: قولُه تعالى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة: الآيتان 14، 15] معناه: أن الإنسانَ حجةٌ على نفسِه. {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} قولُه: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ (¬1):
أحدُهما: أنه لو اعْتَذَرَ كُلَّ الأعذارِ، كما قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 23] فنفسُه حجةٌ عليه؛ لأن جِلْدَهُ وجوارحَه تَنْطِقُ بما فَعَلَ، كما يأتي في قولِه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: آية 22] وكقولِه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: آية65] فكلامُ أيدِيهم وشهادةُ أَرْجُلِهِمْ هو كونُ الإنسانِ بصيرةً وحجةً على نفسِه، حيث يشهدُ عليه جِلْدُه وأعضاؤُه {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: آية 21] فعلى هذا: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} لو أتى بالأعذارِ الكاذبةِ كقولِهم: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: آية 22] {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: آية 28] {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 23] فنفسُه منها حجةٌ قاطعةٌ
¬_________
(¬1) انظر: ابن جرير (29/ 184 - 186)، ابن كثير (4/ 449)، اللسان (مادة: بصر) (1/ 219 - 220).

الصفحة 62