كتاب بدائع الفوائد (اسم الجزء: 2)

الفعل بلفظه على مبهمها ولا على محدودها ولا على حركة فلك وإنما يدل بلفظه على مصدره وفاعله إذا كان الفاعل مطلقا وعلي المفعول به كذلك فإن قيل: فأين لفظ الفعل في ميل وفرسخ وأي معنى للوصف فيه والفعل قد تعدى إليه بغير حرف وعمل فيه بلا واسطة قيل المراد بالميل والفرسخ تبيين مقدار المشي لا تبيين مقدار الأرض فصار الميل عبارة عن عدة خطى كأنك قلت: سرت خطى عدتها كيت كيت فلم يتعد الفعل في الحقيقة إلا إلى المصدر المقدر بعدد معلوم كقولك ضربت ألف ضربة ومشيت ألف خطوة ألا ترى أن الميل عبارة عن ثلاثة آلاف وخمس مائة خطوة والفرسخ أضعاف ذلك ثلاث مرات فلم ينكسر ما أصلناه من أن الفعل لا يتعدى إلا إلى ما ذكرنا وإنما سموا هذا المقدار من الخطى والأذرع ميلا لأنهم كانوا ينصبون في رأس ثلث كل فرسخ كهيئة الميل الذي يكتحل به إلا أنه كبير ثم يكتبون في رأسه عدد ما مشوه ومقدار ما تخطوه وذكر قاسم بن ثابت: "أن هشام بن عبد الملك مر في بعض أسفاره بميل فأمر أعرابيا أن ينظر في الميل كم فيه مكتوبا وكان الأعرابي أميا فنظر فيه ثم رجع إليه فقال: فيه محجن وحلقة وثالثة كأطباء الكلبة وهامة كهامة القطا فضحك هشام وقال: معناه خمسة أميال" فقد وضح لك أن الأميال مقادير المشي وهو مصدر فمن ثم عمل فيها الفعل ومن ثم عمل في المكان نحو جلست مكان زيد لأنه مفعل من الكون فهو في أصل وضعه مصدر عبر به عن الموضع والموضع أيضا من لفظ الوضع فلا يحتاج الفعل في شيء من هذا القبيل إلى حرف والذي قلناه في مكان أنه من الكون هو قول الخليل في كتاب العين إلا أنهم شبهوا الميم بالحرف الأصلي للزومها فقالوا في الجمع أمكنة حتى كأنه على وزن فعال وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة شبهوا الزائد بالأصلي نحو تمدرع وتمسكن وأما جلست يمينك وشمالك فليس من هذا الفصل ولكنه مما حذف منه الجار لعلم السامع أرادوا عن يمينك

الصفحة 110