كتاب البلاغة العربية (اسم الجزء: 2)

* لكنَّ الذين يتحلَّوْن بالقدرة على القول الكثير، والقدرة أيضاً على ضبط نفوسهم وألسنتهم عن شهوة الكلام والإِطالة فيه، وعلى اختيار الكلام المساوي تماماً للمعاني التي يريدون التعبير عنها دون زيادة ولا نقص، فَهُم القلّة النادرة من الناس.
ولا يصل الواصلون إلى القدرة على هذه المطابقة إلاَّ إذا اجتمعت لديهم عدّة صفات يتّضح لنا منها الصفات التاليات:
الأول: الاستعداد الفطريُّ للتّحكُّم بما يقولون.
الثانية: الثروة اللّغوية الواسعة.
الثالثة: القدرة على حُسْنِ الاختيار والانتفاء من الكلمات وأساليب التعبير.
الرابعة: الحكمة في ضبط مسيرة القول على منهج التوسع دون وكْسٍ وشطط.
الخامسة: التدرُّبُ الطويل والممارسة، مع مُتَابعة النظر الناقد، والتمحيص والتحسين.
وبالتتبُّع نلاحظ أنّ الكلام المطابق للمعاني الّتي يراد التعبير عنها به حتى يكون بمثابة القوالب لها تماماً كلامٌ نادرٌ، وهو الأقلّ دواماً من مجموع الكلام ومنزلته رفيعة جدّاً إذا كان فى الموضوعات التي يحسُنُ أن يكون الكلام فيها مطابقاً للمعاني المرادة منه تماماً، لا زائداً ولا ناقصاً، وهي الموضوعات الّتي سبق بيانُها في الفصل الأوّل من هذا الباب.
إنّ القادر على ضَبْطِ كلامه وجَعْلِه مطابقاً لما يريد من المعاني دون زيادة ولا نقصان متكلّم ماهرٌ جدّاً، وهو بمثابة من يمشي على طريق مطابق لحدود مواطئ قدميه تماماً، إذا انحرف يميناً أو شمالاً خرج عنه فأساءَ مُنْحَدِراً أو صاعداً أو ساقطاً.

الصفحة 17