كتاب البلاغة العربية (اسم الجزء: 2)

في ألفاظها، وثَرْوَةً واسعةً في معانيها ودَلالتها، مع أنَّها لا تطوي في مثانيها محاذيف، بل جاءت ثَرْوَةُ المعاني من منطوق الألفاظ المختارة بعناية فائقة.
ولعلَّنا بنظرة تحليليَّةٍ مُتَأَنِّيةٍ فاحصة نكتشفُ أَسبْابَ قِصَرِ العباراتِ وغزارة المعاني.
أولاً: من الملاحظ أنَّ مُتَتَبِّعَ الجزئيّات بالبحث والتأمّل يكتشف صفاتها أفراداً، ثمّ بعد أن يجمع في نفسه أو في سجلاّته صفات هذه الجزئيّات يلاحظ أنّها قد تشترك جميعاً في بعض الصفات التي وجدها فيها، فإذا أراد أن يتحدّث عمّا اكتشفه فأمَامَهُ طريقان:
* إمّا أن يفصّل فيذكَر كُلَّ جزئيّة ويعدّد صفاتها، لكنّه في هذا التفصيل سيجد نفسه مضطرّاً أنْ يكرّر بعض هذه الصفات مع ذكر كلّ جزئية، وعندئذٍ يطول معه حبْلُ الكلام طولاً مُمِلاًّ مكروها.
* وإمَّا أن يَلْجأ إلى اختيار عبارة كليّة شاملة موجزة مختصرة قليلة الكلمات تدلُّ على أن جميع الجزئيات التي تَتَبَّعَها وَيَدُلُّ عليها لفظ "كذا" تتّصف بصفة "كذا وكذا".
وهنا نلاحظ أنّ "القِصَرَ" في التعبير قد جاء من جمع الجزئيّات التي تتبَّعَها بلفظ عامٍّ يشملها، ووصفها جميعاً بالوصف الذي رآها تتصف به، فيقول مثلاً دارسُ طبائع بعض الحيوانات:
"الثَّبَاتُ والسَّطو في الأسود، والغدرُ في النمور، والحيلةُ في الثعالب، والهمَّةُ والخيلاء في الخَيْل، والجلَدُ في البغال، والبلادةُ في الحمير".
وبهذا يكون قد أوجز في عباراته، إذْ جمع تفصيلات كثيرات، دون أن يُقَدِّر في كلامِهِ محاذيف، وكانت وسيلته في هذا الإِيجاز استخدام العبارات ذوات الدلالات الكليّات الشاملات.

الصفحة 30