كتاب البلاغة العربية (اسم الجزء: 2)

على أنّ ذوّاقي الجمال الأدبيّ في الكلام يشعرون بتحقُّقِ الشروط الجمالية في الكلام، أو بتحقٌّقِ قِسْمٍ كبيرٍ منها، مَتَى أحَسُّوا بأذواقهم أنّه كلامٌ جميل، سواءٌ استطاعوا أن يكتشفوا العناصر الجمالية التي أمتعتهم في الكلام، أو لم يستطيعوا اكتشافها.
* والشروط الفكريّة ترجع إلى كون العناصر الفكرية في الكلام عناصر منسجمة مع أصول شجرات الأفكار التي فطر الله عزَّ وجلَّ عليها مَدَارِك النفوس القابلة للعلوم والمعارف، أو إلى قدرة صاحب الكلام على سَتْر الثُّغَرات التي تكون في أبْنِيتِه الفِكْرِيّة، بالإِيهام والتمويه وزخرف القول، حتّى يَبْدُوَ الباطل الذي يقدّمه مُزَيّناً مَطْوِيَّ الثغرات، في صورة حَقٍّ متعانِقِ الفِقَرات، وهي في الحقيقة متباينات متضادّات متنافرات.
* والشروط التلاؤميّة مع مقتضيات الأحوال، ترجع إلى أنّ لكلّ مقامٍ حالاً، وأنّ لكلّ حالٍ مقالاً، وقد سبق بيان هذا في المقدمات العامة أوّل الكتاب.
وأنبّه هُنا على ضرورة التفريق بين الكلام الأدبيّ في الموضوعات الأدبية العامة، كالنسيب والمدح والهجاء والموعظة والنصيحة وما يتضمن استثارة للانفعالات والعواطف الإِنسانية، وبين المقال الصحفي، والخطبة، والمقال العلمي، إذْ لكلِّ مجالٍ من هذه المجالات أسلوبٌ من الكلام يلائمه، وما يصلُحُ في واحدٍ منها قد لا يصلحُ في سائرها.
إنّ جدول الماء مثلاً قد يراه العاشق في تعبيره الأدبيّ مثل مجرى دموعه، وتدفق أشواقه، ومثل لين جسد التي يعشقها، وهو مشوق لوصالها.
ويراه الأديب الوصّاف فيصف انسيابه كالثعبان، وحركته الجمالية، ويصف ما يحيط به من نبات وحيوان، وما يتدلّى عليه من أغصان الشجر، وما يمتد إليه من أشعة وأنوار، وما يتناثر عليه من زهر، وما يتلاعَبُ على سطحه وفي جوفه من سابح طير وسمك.

الصفحة 566