كتاب تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (اسم الجزء: 2)
قال القاضي أبو محمد: ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان، وشَهِيداً معناه: أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة.
وقوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ الآية، قوام فعال: بناء مبالغة، وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء، وعلى هذا قال أهل التأويل و «ما» في قوله: بِما فَضَّلَ اللَّهُ مصدرية، ولذلك استغنت عن العائد، وكذلك بِما أَنْفَقُوا والفضيلة: هي الغزو وكمال الدين والعقل وما أشبهه، والإنفاق: هو المهر والنفقة المستمرة على الزوجات، وقيل: سبب هذه الآية أن سعد بن الربيع لطم زوجه حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن تلطمه كما لطمها، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض الحكم الأول وقال: أردت شيئا وما أراد الله خير، وفي طريق آخر أردت شيئا وأراد الله غيره، وقيل: إن في هذا الحكم المردود نزلت وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: ١١٤] وقيل سببها قول أم سلمة المتقدم، أي: لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة. والصلاح في قوله فَالصَّالِحاتُ هو الصلاح في الدين، و «والقانتات» معناه: مطيعات، والقنوت الطاعة، ومعناه لأزواجهن، أو لله في أزواجهن، وغير ذلك، وقال الزجّاج: إنها الصلاة، وهذا هنا بعيد ولِلْغَيْبِ معناه: كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وفي مصحف ابن مسعود «فالصوالح قوانت حوافظ» وهذا بناء يختص بالمؤنث، وقال ابن جني: والتكسير أشبه لفظا بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا، وبِما حَفِظَ اللَّهُ الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الله» بالنصب على إعمال حَفِظَ فأما قراءة الرفع «فما» مصدرية تقديره: يحفظ الله، ويصح أن تكون بمعنى «الذي» ويكون العائد الذي في حَفِظَ ضمير نصب ويكون المعنى أما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وأما أوامره ونواهيه للنساء، فكأنها حفظه، فمعناه: أن النساء يحفظن بإرادته وبقدره، وأما قراءة ابن القعقاع بما حفظ الله، فالأولى أن تكون «ما» بمعنى «الذي» وفي حَفِظَ ضمير مرفوع، والمعنى حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظ الله في أوامره حين امتثلنها، وقيل: يصح أن تكون «ما» مصدرية، على أن تقدير الكلام بما حفظن الله وينحذف الضمير، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر، كما قال [الأعشى] : [المتقارب] فإنّ الحوادث أودى بها يريد أودين، والمعنى: يحفظن الله في أمره حين امتثلنه، وقال ابن جني: الكلام على حذف مضاف تقديره: بما حفظ دين الله وأمر الله، وفي مصحف ابن مسعود «بما حفظ الله فأصلحوا إليهن» .
الصفحة 47
565