كتاب تفسير ابن كثير ط العلمية (اسم الجزء: 2)

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أَيْ مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88] كُلُّ شَيْءٍ يَفْنَى وَلَا يَبْقَى إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 27] .
قوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَالِدِ، بَلْ يَكْفِي فِي وُجُودِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ، ولكن الذي يرجع إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَضَاءُ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ الذي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَبٌ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْجُبُهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَا وَالِدَ بِالنَّصِّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَالِدِ بَلْ لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ وَعَطِيَّةَ وَحَمْزَةَ وَرَاشِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَأَعْطَى الزَّوْجَ النِّصْفَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ، فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ «2» وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ: تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ قَالَ:
فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا فَقَدْ تَرَكَ وَلَدًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالتَّعْصِيبِ بِدَلِيلٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وهذه الآية نصت أَنْ يُفْرَضَ لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَمَّا وِرَاثَتُهَا بِالتَّعْصِيبِ فَلِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، النصف للبنت وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النبي صلّى الله عليه وسلّم النصف للبنت، ولبنت الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ «3» .
وَقَوْلُهُ: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة، وليس
__________
(1) مسند أحمد 5/ 188.
(2) تفسير الطبري 4/ 382.
(3) انظر صحيح البخاري (فرائض باب 8) وموطأ مالك (رضاع حديث 15) .

الصفحة 431