"""""" صفحة رقم 123 """"""
أن يمشي عليهم هذا المحال، وإنما مشى ذلك على النصارى لأنهم أبلد الخلق أذهاناً وأعماهم قلوباً، غير أن طائفة من غلاة المتصوفة نقل عنهم أنهم قالوا بمثل هذه المقالة وزادوا على النصارى في تعدية ذلك والنصارى قصروه على واحد، فإن صح ذلك عنهم فقد زادوا في الكفر على النصارى، وأحسن ما اعتذر عمن صدرت منه هذه الكلمة الدالة على ذلك وهي قوله أنا الحق بأنه قال ذلك في حال سكر واستغراق غيبوبة عقل، وقد رفع الله التكليف عمن غاب عقله وألغى أقواله فلا تعد مقالته هذه شيئاً ولا يلتفت إليها فضلاً عن أن تعد مذهباً ينقل، وما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطلان القول بالحلول والاتحاد وينبهون على فساده ويحذرون من ضلاله، وهذه نبذة من كلام الأئمة في ذلك: قال حجة الإسلام الغزالي في الاحياء في باب السماع: الحالة الرابعة سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعزب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها، وكان كالمدهوش الغائص في بحر عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف حتى بهتن وسقط إحساسهن، وعن مثل هذه الحالة يعبر الصوفية بأنه فنى عن نفسه، ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى، فكأنه فني عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود، وفني أيضاً عن الشهود، فإن القلب أيضاً إذا التفت إلى الشهود وإلى نفسه بأنه مشاهد فقد غفل عن المشهود، فالمستهتر بالمرئي لا التفات له في حال استغراقه إلى رؤيته ولا إلى عينه التي بها رؤيته ولا إلى قلبه الذي به لذته، فالسكران لا خبرة له من سكره، والمتلذذ لا خبرة له من التذاذه، إنما خبرته من الملتذ به فقط، ومثاله العلم بالشيء فإنه مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء، فالعالم بالشيء مهما ورد عليه العلم بالعلم بالشيء كان معرضاً عن الشيء، ومثل هذه الحالة قد تطرأ في حق المخلوقين، وتطرأ أيضاً في حق خالقية الخالق، ولكنها في الغالب تكون كالبراق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم فإن دام لم تطقه القوى البشرية، فربما يضطرب تحت أعبائه اضطراباً تهلك فيه نفسه فهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد وهي أعلى الدرجات، لأن السماع على الأحوال وهي ممتزجة بصفات البشرية وهو نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها، كما لم يكن للنسوة التفات إلى الأيدي والسكاكين فيسمع بالله ولله وفي الله ومن الله. وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتحد لصفاء التوحيد وتحقيق بمحض الإخلاص فلم يبق فيه منه شيء أصلاً، بل خمدت بالكلية بشريته وفنى إلتفاته إلى صفات البشرية رأساً إلى أن قال: ومن هنا نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد وقال أنا الحق، وحوله يدندن كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت أو تدرعها بها أو حلولها فيها على ما اختلفت فيه عباراتهم وهو غلط محصن هذا كله لفظ الغزالي. وقال أيضاً في باب المحبة: من قويت بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله ولا يعرف غيره ويعلم أنه ليس في الوجود إلا الله وأفعاله أثر من آثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة دونه،