"""""" صفحة رقم 124 """"""
وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها ومن هذا حاله ، فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل ويذهل عن الفعل من حيث أنه سماء ، وأرض ، وحيوان ، وشجر ، بل ينظر فيه من حيث أنه أثره لا من حيث أنه صنع ، فلا يكون نظره مجاوزاً له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان ، أو خطه ، أو تصنيفه ، ورأى فيه الشاعر والمصنف ، ورأى آثاره من حيث أنه أثره لا من حيث أنه حبر وعفص وزاج مرقوم على بياض فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف ، وكذا العالم صنع الله تعالى فمن نظر إليه من حيث أنه فعل الله وعرفه من حيث أنه فعل الله وأحبه من حيث أنه فعل الله لم يكن ناظراً إلا في الله ولا عارفاً إلا بالله ولا محباً إلا لله ، وكان هو الموحد الحق الذي لا يرى إلا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث أنه عبد الله ، فهذا هو الذي يقال فيه أنه فنى في التوحيد وأنه فنى عن نفسه ، وإليه الإشارة بقول من قال : كنا بنا ففنينا [ عنا فبقينا ] بلا نحن فهذه أمور معلومة عند ذوي الأبصار أشكلت لضعف الافهام عن دركها وقصور قدرة العلماء بها عن إيضاحها وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الافهام ، أو لاشتغالهم بأنفسهم واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم ، ثم قال : وقد تحزب الناس إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر ، وإلى غالين مسرفين تجاوزوا إلى الاتحاد وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم : أنا الحق ، وضل النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا : هو الإله ، وقال آخرون : تدرع الناسوت باللاهوت ، وقال آخرون اتحد به ، وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل واستحالة الاتحاد والحلول واتضح لهم وجه الصواب فهم الأقلون ، انتهى كلام الغزالي وبدأنا بالنقل عنه لأنه فقيه أصولي متكلم صوفي وهو أجل من اعتمد عليه في هذا المقام لاجتماع هذه الفنون فيه.
وقال إمام الحرمين في الإرشاد : أصل مذهب النصارى أن الاتحاد لم يقع إلا بالمسيح عليه السلام دون غيره من الأنبياء ، واختلفت مذاهبهم فيه ، فزعم بعضهم أن المعنى به حلول الكلمة جسد المسيح لا يحل العرض محله ، وذهبت الروم إلى أن الكلمة مازجت جسد المسيح وخالطته مخالطة الخمر اللبن وهذا كله خبط.
وقال الأستاذ أبو بكر بن فورك في كتابه المسمى بالنظامي في أصول الدين : قالت النصارى إن عيسى عليه السلام لاهوتي ناسوتي وتكلموا في حلول الكلمة لمريم عليها السلام فمنهم من قال : إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن حلول الممازجة والمخالطة ، ومنهم من قال : إنها حلت فيها من غير ممازجة كما أن شخص الإنسان يتبين في المرآة الصقيلة من غير ممازجة بينهما ، ومنهم من قال : إن مثل اللاهوت مع الناسوت مثل الخاتم مع الشمع في أنه يؤثر حتى يتبين فيه النقش ثم لا يبقى فيه شيء من الأثر ، والأول طريقة اليعقوبية ، والثاني طريقة الملكية ، والثالث طريق النسطورية ، ثم قال : واعلم أنهم قالوا بالاتحاد فقالت طائفة منهم في معنى الاتحاد الكلمة التي هي كن حلت جسد المسيح ، وقالت اليعقوبية : إن الاتحاد اختلاط وامتزاج وزعمت أن كلمة الله انقلبت