"""""" صفحة رقم 127 """"""
الدنيا وبقاء الرغبة في الآخرة، وفناء الأوصاف الذميمة وبقاء الأوصاف الحميدة، وفناء الشك وبقاء اليقين، وفناء الغفلة وبقاء الذكر. قال: وأما قول أبي يزيد البسطامي: سبحاني ما أعظم شاني فهو في معرض الحكاية عن الله، وكذلك قول من قال أنا الحق محمول على الحكاية، ولا يظن بهؤلاء العارفين الحلول والاتحاد لأن ذلك غير مظنون بعاقل، فضلاً عن المتميزين بخصوص المكاشفات واليقين والمشاهدات، ولا يظن بالعقلاء المتميزين على أهل زمانهم بالعلم الراجح والعمل الصالح والمجاهدة وحفظ حدود الشرع الغلط بالحلول والاتحاد كما غلط النصارى في ظنهم ذلك في حق عيسى عليه السلام، وإنما حدث ذلك في الإسلام من واقعات جهلة المتصوفة، وأما العلماء العارفون المحققون فحاشاهم من ذلك هذا كله كلام معيار المريدين بلفظه والحاصل أن لفظ الاتحاد مشترك، فيطلق على المعنى المذموم الذي هو أخو الحلول وهو كفر، ويطلق على مقام الفناء اصطلاحاً اصطلح عليه الصوفية ولا مشاحة في الاصطلاح إذ لا يمنع أحد من استعمال لفظ في معنى صحيح لا محذور فيه شرعاً، ولو كان ذلك ممنوعاً لم يجز لأحد أن يتفوه بلفظ الاتحاد وأنت تقول بيني وبين صاحبي زيد اتحاد، وكم استعمل المحدثون، والفقهاء، والنحاة، وغيرهم لفظ الاتحاد في معان حديثية، وفقهية، ونحوية كقول المحدثين: اتحاد مخرج الحديث. وقول الفقهاء: اتحد نوع الماشية وقول النحاة: اتحد العامل لفظاً أو معنى، وحيث وقع لفظ الاتحاد من محققي الصوفية فإنما يريدون به معنى الفناء الذي هو محو النفس وإثبات الأمر كله لله سبحانه لا ذلك المعنى المذموم الذي يقشعر له الجلد، وقد أشار إلى ذلك سيدي علي بن وفا فقال من قصيدة له:
يظنوا بي حلولاً واتحادا
وقلبي من سوى التوحيد خالي
فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول، وقال من أبيات آخر:
وعلمك أن كل الأمر أمري
هو المعنى المسمى باتحاد
فذكر أن المعنى الذي يريدونه بالاتحاد إذا أطلقوه هو تسليم الأمر كله لله وترك الإرادة معه والاختيار والجري على مواقع أقداره من غير اعتراض وترك نسبة شيء ما إلى غيره.
وقال صاحب كتاب نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول والاتحاد: حدثني الشيخ كمال الدين المراغي عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه قال له مرة الكفار إنما انتشروا في بلادكم لانتشار الفلسفة هناك وقلة اعتنائهم بالشريعة والكتاب والسنة، قال: فقلت له: في بلادكم ما هو شر من هذا وهو قول الاتحادية، فقال: هذا لا يقوله عاقل فإن قول هؤلاء كل أحد يعرف فساده، قال: وحدثني الشيخ كمال الدين المذكور قال: اجتمعت بالشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ الكبير أبي الحسن الشاذلي وفاوضته في هؤلاء الاتحادية فوجدته شديد الإنكار عليهم والنهي عن طريقهم وقال: أتكون الصنعة هي الصانع؟ انتهى. قلت: ولهذا كانت طريقة الشاذلي هي أحسن طرق التصوف وهي في المتأخرين نظير طريقة الجنيد في المتقدمين، وقد قال الشيخ تاج الدين بن السبكي في