كتاب الحاوي للفتاوي ـ العلمية (اسم الجزء: 2)

"""""" صفحة رقم 129 """"""
وقال العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه شرح منازل السائرين الدرجة الثالثة من درجات الفناء فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين وهو الفناء عن إرادة السوي ، شائماً برق الفنا عن إرادة ما سواه سالكاً سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه ، فانياً بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه فضلاً عن إرادة غيره ، قد اتخذ مراده بمراد محبوبه أعني المراد الديني الأمري لا المراد الكوني القدري فصار المرادان واحداً قال : وليس في العقل اتحاد صحيح إلا هذا والاتحاد في العلم والخبر ، فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحداً مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين ، فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب ، وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب ، فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم قد فنوا بعبادته عن عبادة ما سواه ، وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه ، ومن تحقق بهذا الفناء لا يحب إلا في الله ، ولا يبغض إلا فيه ، ولا يوالي إلا فيه ، ولا يعادي إلا فيه ، ولا يعطي إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، فيكون دينه كله ظاهراً لله ، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه بل :
يعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعاً ولو كان الحبيب المصافيا
وحقيقة ذلك فناؤها عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربه تعالى وحقوقه ، والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علماً ومعرفة وعملاً وحالاً وقصداً ، وحقيقة هذا النفي والاثبات الذي تضمنته هذه الشهادة هو الفناء والبقاء ، ففنى عن تأله ما سواه علماً وافراداً وتعمداً ، وبقي تألهه وحده ، فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحيد الذي اتفقت عليه المرسلون صلوات الله عليهم وأنزلت به الكتب وخلقت لأجله الخليقة وشرعت له الشرائع وقامت عليه سوق الجنة وأسس عليه الخلق والأمر إلى أن قال : وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أصحاب الإرادة ، والمعصوم من عصمه الله ، والله المستعان.
وقال في موضع آخر : وإن كان مشمراً للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوي لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب تعالى هو عين مراد العبد وهذا حقيقة المحبة الخالصة ، وفيها يكون الاتحاد الصحيح وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة ، قال : فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواحدين انتهى ، وقد تكرر كلام ابن القيم في هذا الكتاب في تضليل الاتحادية والقائلين بالوحدة المطلقة وقد سقت منه أشياء في كتابي الذي أشرت إليه فلينظر منه والله أعلم.
مسألة : في قول أهل السنة : إن العبد له في فعله نوع اختيار هل هو معارض لقوله تعالى : ) وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ( ؟.
الجواب : لا معارضة فإن الاختيار الذي هو بمعنى القدرة والإرادة والإنشاء والإبداع خاص بالله تعالى لا شريك له. وأما الاختيار الذي أثبته أهل السنة للعبد فالمراد به قصده

الصفحة 129