كتاب الحاوي للفتاوي ـ العلمية (اسم الجزء: 2)

"""""" صفحة رقم 178 """"""
علمنا أن كنت لمؤمناً، وإنما المقصود من السؤال أمور: أحدها: إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلّم ومكانته وخصوصيته ومزيته على سائر الأنبياء، فإن سؤال القبر إنما جعل تعظيماً له وخصوصية شرف بأن الميت يسأل عنه في قبره ولم يعط ذلك نبي قبله كما قال صلى الله عليه وسلّم: (فأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون) الحديث، أخرجه أحمد، والبيهقي من حديث عائشة بسند صحيح، قال الحكيم الترمذي: سؤال القبور خاص بهذه الأمة لأن الأمم قبلها كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل واعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما بعث الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم بالرحمة أمسك عنهم العذاب وأعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فمن هذا ظهر النفاق فكانوا يسرون الكفر ويعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سرهم بالسؤال وليميز الله الخبيث من الطيب.
الثاني: قال الحليمي من أصحابنا في شعب الإيمان: لعل المعنى في السؤال والله أعلم أن الميت قد حول من ظهر الأرض إلى بطنها الذي هو الطريق إلى الهاوية فيجيء هناك ويوقف ويسأل، فإن كان من الأبرار عرجت الملائكة بنفسه وروحه إلى عليين وهو نظير إيقافه في المحشر على شفير جهنم واستعراض عمله حتى إذا وجد من الأبرار أجيز على الصراط وإن كان من الفجار ألقي في النار، وانتهى كلام الحليمي.
الثالث: قال بعضهم: جعلت فتنة القبر تكرمة للمؤمن وإظهاراً لإيمانه وتمحيصاً لذنوبه، وقال بعض العلماء: من فعل سيئة فإن عقوبتها تدفع عنه بعشرة أشياء أن يتوب فيتاب عليه، أو يستغفر فيغفر له، أو يعمل حسنات فتمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يبتلي في الدنيا بمصائب فتكفر عنه، أو نفي البرزخ بالضغطة والفتنة فتكفر عنه، أو يدعو له إخوانه من المؤمنين ويستغفرون له، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه، أو يبتلى في عرصات القيامة بأهوال تكفر عنه، أو تدركه شفاعة نبيه، أو رحمة ربه، انتهى.
الرابع: قال عبد الجليل القصري في شعب الإيمان: المعنى في سؤال الملكين الفتانين في القبر أن الخلق في التزام الشرائع وقبول الإيمان لا بد لهم من الإختبار لأمر الله ومن النظر فيه وفي أمر الرسل وما جاءت به، وهو المعبر عنه بأول الواجبات عند عرض الشرائع على العقول، فيعتقد كل أحد في قلبه وسره على حسب ما قدر له حين تعترضهم أفكار النظر والفكر فيما جاءت به الرسل من أمور الغيب، فمن بين منكر جاحد أو شاك مرتاب، ومن بين مؤمن مصدق موقن مطمئن ثابت، هذه حال الكل مدة الدنيا من أول ما وجبت عليهم الواجبات إلى حين الموت، فلما حصل الخلق في الآخرة فتنوا بالجزاء عن عقائدهم وأحوالهم جزاءً وفاقاً، ولذلك يقول الملكان للمسؤول: قد علمنا أن كنت لمؤمناً، ولا دريت ولا تليت وعلى الشك حييت وعليه مت، على حسب اختلاف أسرار الخلق في الدنيا ثم بعد ذلك يفتح لكل أحد باب إلى الجنة وباب إلى النار وينظر إلى مقعده منهما، ومعنى ذلك أن الرسل جاءت من عند الله وفتحت للعقول أبواب دين الإسلام حين عرضته على

الصفحة 178