كتاب الحاوي للفتاوي ـ العلمية (اسم الجزء: 2)

"""""" صفحة رقم 209 """"""
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وأوضح من ذلك في التقرير أن البيهقي أورد في شعب الإيمان حديث مسلم إن في أمتي أربعاً من أمر الجاهلية ليسوا بتاركيهن الفخر في الأحساب الحديث، وقال عقبة: فإن عورض هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلّم في اصطفائه من بني هاشم فقد قال الحليمي: لم يرد بذلك الفخر إنما أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم كرجل يقول: كان أبي فقيهاً لا يريد به الفخر وإنما يريد به تعريف حاله دون ما عداه، قال: وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر وليس ذلك من الإستطالة والفخر في شيء انتهى، فقوله: أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم أو الإرشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر فيه تقوية لمقالة الإمام وإجرائها على عمومها كما لا يخفى، إذ الاصطفاء لا يكون إلا لمن هو على التوحيد، ولا شك أن الترجيح في عبد المطلب بخصوصه عسر جداً لأن حديث البخاري مصادم قوي، وإن أخذ في تأويله لم يوجد تأويل قريب، والتأويل البعيد يأباه أهل الأصول، ولهذا لما رأى السهيلي تصادم الأدلة فيه لم يقدر على الترجيح فوقف وقال: ف الله أعلم وهذا يصلح أن يعد قولاً رابعاً فيه وهو الموقف، وأكثر ما خطر لي في تأويل الحديث وجهان بعيدان فتركتهما، وأما حديث النسائي فتأويله قريب وقد فتح السهيلي بابه وإن لم يستوفه، وإنما سهل الترجيح في جانب عبد الله مع أن فيه معارضاً قوياً وهو حديث مسلم لأن ذاك سهل تأويله بتأويل قريب في غاية الجلاء والوضوح، وقامت الأدلة على رجحان جانب التأويل فسهل المصير والله أعلم.
ثم رأيت الإمام أبا الحسن الماوردي أشار إلى نحو ما ذكره الإمام فخر الدين إلا أنه لم يصرح كتصريحه فقال في كتابه أعلام النبوة: لما كان أنبياء الله صفوة عباده وخيرة خلقه لما كلفهم من القيام بحقه والإرشاد لخلقه استخلصهم من أكرم العناصر واجتباهم بمحكم الأواصر فلم يكن لنسبهم من قدح ولمنصبهم من جرح لتكون القلوب لهم أصفى والنفوس لهم أوطا، فيكون الناس إلى اجابتهم أسرع، ولأوامرهم أطوع، وأن الله استخلص رسوله صلى الله عليه وسلّم من أطيب المناكح، وحماه من دنس الفواحش، ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزهة، وقد قال ابن عباس في تأويل قول الله:) وتقلبك في الساجدين (أي تقلبك من أصلاب طاهرة من أب بعد أب إلى أن جعلك نبياً، فكان نور النبوة ظاهراً في آبائه، ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لإنتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبهما عليه ليكون مختصاً بنسب جعله الله للنبوة غاية ولتفرده نهاية، فينزل عنه أن يشارك فيه ويماثل فيه فلذلك مات عنه أبواه في صغره. فأمان أبوه فمات وهو حمل وأما أمه فماتت وهو ابن ست سنين وإذا خبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام ليس في آبائه مسترذل ولا مغموز مستبذل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب

الصفحة 209