كتاب الحاوي للفتاوي ـ العلمية (اسم الجزء: 2)

"""""" صفحة رقم 295 """"""
وأما السؤال السادس والعشرون : فقد اختلف الناس قديماً وحديثاً في ذلك فمنهم من فضل الفقير الصابر على الغني الشاكر ، ومنهم من عكس ، ومنهم من توسط ففضل الكفاف وهو المختار ، قال صاحب الوحيد : ذهب الجنيد إلى أن الفقير الصابر أفضل وهو الذي أراه وعلله بأن قال ما من ألم نفسه كمن أراح نفسه ، وذهب ابن عطاء إلى أن الغني الشاكر أفضل واستدل بأن الغني صفة من صفات الله وهذا مشتق منه فقال له الجنيد : إن غنى الله بذاته وهذا الغنى تمتد إليه يد السارق والغاصب فلا يشتق هذا منه ، وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في القواعد الكبرى : فإن قيل أيما أفضل حال الأغنياء أم حال الفقراء ؟ فالجواب إن الناس أقسام أحدهم من يستقيم على الغنى ويفسد حاله بالفقر ولا خلاف أن غنى هذا خير له من فقره ، والثاني أن يستقيم على الفقر ويفسده الغنى ويحمله على الطغيان فلا خلاف أن فقر هذا خير له من غناه ، الثالث : من إذا افتقر قام بجميع وظائف الفقر كالرضا والصبر ، وإن استغنى قام بجميع وظائف الغنى من البذل والإحسان وشكر الملك الديان ، فقد اختلف الناس في أي حال هذا أفضل ، فذهب قوم إلى أن الفقر أفضل ، وقال آخرون : غناه أفضل وهو المختار لاستعاذته صلى الله عليه وسلّم من الفقر ، ولا يجوز حمله على فقر النفس لأنه خلاف الظاهر بغير دليل ، وقد يستدل لهؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان أغلب أحواله الفقر إلى أن أغناه الله بحصول خيبر وفدك والعوالي وأموال بني النضير. والجواب عن هذا أن الأنبياء والأولياء لا يأتي عليهم يوم إلا كان أفضل من الذي قبله ، وقد ختم آخر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالغنى ولم يخرجه غناه عما كان يتعاطاه في أيام فقره من البذل والإيثار والتقليل حتى أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير ، وكيف لا يكون كذلك وهو صلى الله عليه وسلّم يقول : ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسك شر لك أراد بالفضل ما فضل عن الحاجة الماسة كما فعل صلى الله عليه وسلّم فمن سلك من الأغنياء هذا الطريق فبذل الفضل كله مقتصراً على عيش مثل عيش النبي صلى الله عليه وسلّم فلا امتراء أن غنى هذا خير من فقره ، ويدل على ذلك حديث الصحيحين : ذهب ذوو الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم الحديث ، وفيه ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وأما قوله صلى الله عليه وسلّم : ( يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام ) وقوله صلى الله عليه وسلّم : ( اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء ) فإن ذلك محمول على الغالب من أحوال الأغنياء والفقراء إذ لا يتصف من الأغنياء بما ذكرناه من أن يعيش عيش الفقراء أو يتقرب إلى الله بما فضل من عيشه مقدماً لأفضل البذل فأفضله إلا الشذوذ النادرون الذين لا يكادون يوجدون ، والصابرون على الفقر قليل ما هم والراضون أقل من ذلك القليل هذا كلام الشيخ عز الدين وقال ابن بطال في حديث : ( ذهب ذوو الأموال بالدرجات العلى ) في هذا الحديث فضل الغنى نصاً لا تأويلاً إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض الله عليهما ، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة ونحوها مما لا سبيل للفقير إليه ، وقال ابن دقيق العيد : ظاهر الحديث القريب من النص أنه فضل الغني وبعض الناس تأوله بتأويل مستكره ، قال : والذي يقتضيه النظر أنهما

الصفحة 295