وقالوا: "لَيتَنِي"، وقَلَّ في كلامهم: "لَيْتي"، وكان من قبيلِ الضرورة، ومع ذلك، فإنها حروفٌ أجريت مُجرى الفعل في العمل، وليست أفعالاً، فهي بحكم الشَّبَه تلزمها نونُ الوقاية كالفعل. ومن حيث هي حروفٌ يجوز إسقاطُ النون منها, لأنّ الحروف في ذلك على ضربَيْن: تأتي بالنون والياء، وبالياء وحدَها، وذلك نحو قولك: "مِنِّي"، و"عَنِّي"، فهذه قد لزمتها النون على ما ترى.
وقالوا: "إلَيَّ"، و"بي" من غيرِ نون؛ لأنّ الحروف لا يُكرَه فيها الكسرُ كما كُره في الأفعال، مع أنّهم قد حذفوا هذه النونَ مع الفعل نفسِه، نحو قوله [من الوافر]:
446 - تَراة كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكًا ... يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْنِي
وإذا أجازوا حذفَها مع الفعل؛ كان مع الحرف أسْوغَ. فأمّا الفراء، فإنّه احتجّ لسقوطِ النون في "أَنَّ"، و"كَأَنَّ"، و"لَعَلَّ" بأنّها بُعدتْ عن الفعل، إن ليست على لفظه، فضعُف لزومُ النون لها، و"ليْتَ" على لفظ الفعل، فقوي فيها إثباتُ النون. ألا ترى أنّ أولها مفتوحٌ، وثانيَها حرفُ علّةٍ ساكنٌ، وثالثَها مفتوحٌ، فهو كـ"قَامَ"، و"بَاعَ"؟ وهو قولٌ حسنٌ، إلّا أنّه يلزمه أنّ يقلّ حذفُها مع "أنَّ" المفتوحة؛ لأنّها على وزان الأفعالِ
¬__________
446 - التخريج: البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 180؛ وخزانة الأدب 5/ 371، 372، 373؛ والدرر 1/ 213؛ وشرح أبيات سيبويه 2/ 304؛ وشرح شواهد الإيضاح ص 213؛ والكتاب 3/ 520؛ ولسان العرب 15/ 163 (فلا)؛ والمقاصد النحوية 1/ 379؛ وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 85؛ وجمهرة اللغة ص 459؛ ولسان العرب 2/ 246 (حيج)؛ والمنصف 2/ 337؛ وهمع الهوامع 1/ 65.
اللغة: الثغام: نبت إذا يبس ابيض لونه. يعل: يشرب بعد الشربة الأولى. يفلي: يفتش في الشعر عن القمل.
المعنى: ترى شعري أصبح مختلطًا أسوده بأبيضه، نعم وهذا ما يسوء الفاليات فيبتعدن عني.
الإعراب: "تراه": فعل ماضٍ مبني على الفتحة المقدرة على الألف للتعذر، والهاء: ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره: أنت. "كالثغام": جار ومجرور متعلقان بحال محذوفة. "يعل": فعل مضارع مبنيّ للمجهول مرفوع بالضمة الظاهرة، ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره: هو. "مسكًا": تمييز منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره. "يسوء": فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة، والفاعل ضمير مستتر جوازًا تقديره: هو. "الفاليات": مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم. "إذا": ظرف مبنيّ على السكون في محل نصب مفعول فيه متعلق بالفعل "يسوء". "فليني": فعل ماضٍ مبنيّ على السكون لاتصاله بنون النسوة، ونون الوقاية: محذوفة، والياء: ضمير متصل في محلّ نصب مفعول به.
جملة "تراه": ابتدائية لا محل لها من الإعراب. وجملة "يعل مسكًا": في محل نصب حال. وجملة "يسوء": في محل نصب حال. وجملة "فليني": في محل جر بالإضافة.
والشاهد فيه قوله: "فليني" فحذفت نون الوقاية للضرورة والأصل فيه "فلينني"، وبقيت نون النسوة؛ لأنها فاعل.