كتاب شرح المفصل لابن يعيش (اسم الجزء: 2)

فـ "مَنْ" هنا استفهامٌ في موضع رفع، إذا رُفع "المنون"، وأُلْغي الفعل الذي هو "رأيت". فإن أعملتَ الفعل، نصبتَ "المنون"، وكانت "مَنْ" في موضع نصب بـ "خلدن". وهي مبنية لتضمنها همزة الاستفهام، وذلك أنك إذا قلت: "من هذا؟ " فكأنك قلت: "أزيدٌ هذا أعمرٌو هذا؟ " والأسماء لا تُحصَى كثرةَ، فأتوا باسم يتضمن جميع ذلك، وهو"مَنْ"، فاستُغني به عن تَعْداد الأسماء كلها على ما تقدّم في "ما".
الموضع الثالث:
أن تقع للمُجازاة وتختصّ أيضًا بذواتِ من يعقل، وهي مبنيّة أيضًا لتضمنها حرفَ الجزاء، وهو"إنْ"، وذلك نحو قولك: "من يأتِني آتهِ"، و"من يُكْرِمْني أشْكُرْه"، كأنك قلت: إن يكرمني زيد أو عمرو ونحوهما ممّن يعقل أشكره. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1).
الرابع: أن تكون نكرة موصوفة، نحو قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (¬2) في أحد الوجهَيْن، أي: كلُّ شيء عليها هَالِك إلَّا وَجْهَه. ومثله قول الشاعر [من السريع]:
504 - يا رُب مَن يُبْغِضُ أَذْوادَنَا ... رُحْنَ على بَغْضائه واغتَدَيْنْ
¬__________
(¬1) الطلاق: 3.
(¬2) الرحمن: 26.
504 - التخريج: البيت لعمرو بن قميئة في ديوانه ص 196؛ والأزهية ص 101؛ ولعمرو بن لأي بن موألة في معجم الشعراء ص 314؛ وبلا نسبة في المقتضب 1/ 41؛ والحيوان 3/ 306.
اللغة: الأذواد: جمع ذَودٍ، وهو القطيع من الإبل بين الثلاثة جمال والثلاثين.
المعنى: إننا أعزاء لا يستطيع أحدٌ صد إبلنا عن المرعى، فإبلُنا على بغض الناس لها تروح إلى مراعيها وتعود غير آبهةٍ بأحد.
الإعراب: "يا": حرف تنبيه فقط، ويمكن أن يكون حرف نداء، والمنادى محذوف، والتقدير: يا قومُ رب مَنْ ... "رب": حرف جر شبيه بالزائد. "مَنْ": اسم مبني على السكون مجرور على اللفظ بـ "رب" مرفوع على المحل على أنه مبتدأ، "يبغض": فعل مضارع مرفوع بالضمة، وفاعله مستتر جوازًا تقديره (هو). "أذوادَنا": مفعول به منصوب بالفتحة، و"نا": مضاف إليه محله الجر. "رُحن": فعل ماضٍ مبني على السكون، والنون: فاعل حله الرفع. "على بغضائه": جار ومجرور متعلقان بـ "رُحن"، والهاء: مضاف إليه محله الجر. "واغتدين": الواو: حرف عطف، "اغتدينَ": مثل "رحن" ولكن نون "اغتدين" سكنت للضرورة.
جملة "يا قوم": ابتدائية لا محل لها من الإعراب. وجملة "من يبغض أذوادنا رُحن على بغضائه": صفة لـ "من" محلها الرفع على المحل. وجملة "رحن": خبر المبتدأ (من) محله الرفع. وجملة "اغتدين": معطوفة على جملة "رُحنَ".
والشاهد فيه: دخول "رب" على "مَن" وهذا دليل تنكير "من" لأن "ربَّ" لا تدخل إلا على النكرة، لذا فالجملة بعد (من) صفة لها كما لاحظنا.

الصفحة 412