كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 2)

[سورة البقرة (2): آية 200]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ" قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَنَاسِكُ الذَّبَائِحُ وَهِرَاقَةُ الدِّمَاءِ. وَقِيلَ: هِيَ شَعَائِرُ الْحَجِّ، لقوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم). المعنى: فَإِذَا فَعَلْتُمْ مَنْسَكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِآلَائِهِ عِنْدَكُمْ. وَأَبُو عَمْرٍو يُدْغِمُ الْكَافَ فِي الْكَافِ، وَكَذَلِكَ" مَا سَلَكَكُمْ" لأنهما مثلان. و" قَضَيْتُمْ" هُنَا بِمَعْنَى أَدَّيْتُمْ وَفَرَغْتُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ" «1» [الجمعة: 10] أَيْ أَدَّيْتُمُ الْجُمُعَةَ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْقَضَاءِ عَمَّا فُعِلَ مِنَ الْعِبَادَاتِ خَارِجَ وَقْتِهَا الْمَحْدُودِ لَهَا. الثانية- قوله تعالى:" فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ" كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ إِذَا قَضَتْ حَجُّهَا تَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ، فَتُفَاخِرُ بِالْآبَاءِ، وَتَذْكُرُ أَيَّامَ أَسْلَافِهَا مِنْ بَسَالَةٍ وَكَرَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْقُبَّةِ، عَظِيمَ الْجَفْنَةِ «2»، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ، فَلَا يَذْكُرُ غَيْرَ أَبِيهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِيُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَكْثَرَ مِنَ الْتِزَامِهِمْ ذِكْرَ آبَائِهِمْ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: مَعْنَى الْآيَةِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِ الْأَطْفَالِ آبَاءَهُمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ: أَبَهْ أُمَّهْ، أَيْ فَاسْتَغِيثُوا بِهِ وَالْجَئُوا إِلَيْهِ كَمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ فِي حَالِ صِغَرِكُمْ بِآبَائِكُمْ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ اذْكُرُوا اللَّهَ وَعَظِّمُوهُ وَذُبُّوا عَنْ حَرَمِهِ، وَادْفَعُوا مَنْ أَرَادَ الشِّرْكَ فِي دِينِهِ وَمَشَاعِرِهِ، كَمَا تَذْكُرُونَ آبَاءَكُمْ بِالْخَيْرِ إِذَا غَضَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَتَحْمُونَ جَوَانِبَهُمْ وَتَذُبُّونَ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْجَوْزَاءِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ الْيَوْمَ لَا يَذْكُرُ أَبَاهُ، فَمَا مَعْنَى الْآيَةِ؟ قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ أَنْ تَغْضَبَ لله تعالى
__________
(1). راجع ج 18 ص 108.
(2). الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع.

الصفحة 431