كتاب شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (اسم الجزء: 2)

وذكرها بما ذكره الله مع زوجها من الذم، أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من الحجارة فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر، وأخذ الله ببصرها عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر فاه (¬1) .
فمن عصمه من الأعرابى والسيف في يده، ومن ضرر جمر النار، ومن الفهر الذي في يد حمالة الحطب إلا الله، فلهذا كان لا يلتفت في مشيه - صلى الله عليه وسلم -.
ومما ورد في عصمته ما ذكره ابن إسحاق وغيره: أن أبا جهل أتاه بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون لطرحها، فلزقت بيده ويبست يداه في عنقه، وأقبل يرجع بهذا الفهر إلى خلفه، ثم سأله أن يدعو له ففعل فانطلقت يداه.
وكان قد تواعد مع قريش بذلك وحلف لئن رآه ليدمغنه، فسألوه عن شأنه فقالوا له لأي شيء رجعت القهقرى بعد أن حلفت أنك إن رأيته لتدمعنه، فذكر أنه عرض له دونه فحل ما رأيت مثله قط همَّ بي أن يأكلني.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك جبريل لو دنا لأخذه» (¬2) .
وقريب من هذا ما ذكره أهل التفسير عن أبي هريرة: أن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمد يصلي ليطأن رقبته فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلموه فأقبل، فلما قرب منه ولي هارباً ناكصاً على عقبيه متقياً بيده، فسئل فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوءٍ من نار كدت أهوي فيه، وأبصرت هولاً عظيماً وخفق أجنحة قد ملأت الأرض، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الملائكة لو دنا لاختطفته عضواً عضواً» (¬3) .
ثم أنزل الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب ذلك: ?كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى? إلى آخر السورة [العلق 6 - 19] .
¬_________
(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/393، رقم 3376) والحميدي (1/153، رقم 323) وأبو يعلى (1/53، رقم 53) عن أسماء بنت أبي بكر.
(¬2) أخرجه ابن اسحاق في السيرة (4/180) ، وابن هشام (2/136) ، والبيهقي وأبو نعيم على ما عزاه السيوطي في الخصائص (1/211) ، والقصة أصلها في صحيح البخاري (4/1896، رقم 4675) ، وسنن الترمذي (5/443، رقم 3348) ، ومسند أحمد (1/368، رقم 3483) ومسند أبي يعلى (4/471، رقم 2604) عن ابن عباس.
(¬3) أخرجه مسلم (4/2154، رقم 2797) ، وابن حبان (14/532، رقم 6571) ، والنسائي في الكبرى (6/518، رقم 11683) ، وأبو يعلى (11/70، رقم 6207) عن أبي هريرة.

الصفحة 352