كتاب المحلى بالآثار (اسم الجزء: 2)

عَلَى قَوْلِكُمْ، وَلَا مَلَامَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ.
وَإِنْ قَالُوا: لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا، قُلْنَا صَدَقْتُمْ؛ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ إذْ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ الصَّلَاةِ إلَى بَعْدِ الْوَقْتِ: أَطَاعَةٌ هِيَ أَمْ مَعْصِيَةٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: طَاعَةٌ، خَالَفُوا إجْمَاعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كُلِّهِمْ الْمُتَيَقَّنَ، وَخَالَفُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الثَّابِتَةَ: وَإِنْ قَالُوا: هُوَ مَعْصِيَةٌ صَدَقُوا، وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ تَنُوبَ الْمَعْصِيَةُ عَنْ الطَّاعَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَدَّ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ لِكُلِّ وَقْتِ صَلَاةٍ مِنْهَا أَوَّلًا لَيْسَ مَا قَبْلَهُ وَقْتًا لِتَأْدِيَتِهَا، وَآخِرًا لَيْسَ مَا بَعْدَهُ وَقْتًا؛ لِتَأْدِيَتِهَا، هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ؛ فَلَوْ جَازَ أَدَاؤُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمَا كَانَ لِتَحْدِيدِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آخِرَ وَقْتِهَا مَعْنًى؛ وَلَكَانَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ عَمَلٍ عُلِّقَ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَلَوْ صَحَّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَقْتًا لَهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَنَسْأَلُهُمْ: لِمَ أَجَزْتُمْ الصَّلَاةَ، بَعْدَ الْوَقْتِ، وَلَمْ تُجِيزُوهَا قَبْلَهُ؟ فَإِنْ ادَّعُوا الْإِجْمَاعَ كَذَبُوا؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يُجِيزَانِ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْوَقْتِ، لَا سِيَّمَا وَالْحَنَفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّونَ وَالْمَالِكِيُّونَ يُجِيزُونَ الزَّكَاةَ قَبْلَ الْوَقْتِ، وَيَدَّعُونَ أَنَّ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ، إنَّمَا كَانَ قِيَاسًا لِلزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ قَالَ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَهُمْ قَدْ فَرَّقُوا هَهُنَا بَيْنَ حُكْمِ الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةِ فَلْيَعْجَبْ الْمُتَعَجِّبُونَ، وَإِنْ ادَّعُوا فَرْقًا مِنْ جِهَةِ نَصٍّ أَوْ نَظَرٍ لَمْ يَجِدُوهُ.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّكُمْ تُجِيزُونَ النَّاسِيَ وَالنَّائِمَ وَالسَّكْرَانَ عَلَى قَضَائِهَا أَبَدًا.
وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ بِالْوَقْتِ؟ قُلْنَا: لَا بَلْ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِلنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ مُمْتَدٌّ غَيْرُ مُنْقَضٍ.
وَبُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عُصَاةً فِي تَأْخِيرِهَا إلَى أَيِّ وَقْتٍ صَلُّوهَا فِيهِ، وَكُلُّ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ مُنْقَسِمٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ لَا رَابِعَ لَهَا إمَّا أَمْرٌ غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِوَقْتٍ؛ فَهَذَا يُجْزِئُ أَبَدًا مَتَى أُدِّيَ، كَالْجِهَادِ وَالْعُمْرَةِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا يُجْزِئُ مَتَى أُدِّيَ؛ وَالْمُسَارَعَةُ إلَيْهِ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

الصفحة 11