كتاب المحلى بالآثار (اسم الجزء: 2)

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا} [آل عمران: 133] ، وَإِمَّا أَمْرٌ مُعَلَّقٌ بِوَقْتٍ مَحْدُودِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مَحْدُودِ الْآخِرِ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، فَهَذَا لَا يُجْزِئُ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَا يَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوبِهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَا آخِرَ لِوَقْتِهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إلَيْهِ أَفْضَلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِمَّا أَمْرٌ مُعَلَّقٌ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ فَهَذَا لَا يُجْزِئُ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَا بَعْدَ وَقْتِهِ؛ وَيُجْزِئُ فِي جَمِيعِ وَقْتِهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَوَسَطِهِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَنَقُولُ لِمَنْ خَالَفَنَا: قَدْ وَافَقْتُمُونَا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَأَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِ النَّهَارِ؛ فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ؟ وَكُلُّ ذَلِكَ ذُو وَقْتٍ مَحْدُودٍ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ؟ وَهَذَا مَا لَا انْفِكَاكَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا قِسْنَا الْعَامِدَ عَلَى النَّاسِي.
قُلْنَا الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الشَّيْءِ عَلَى نَظِيرِهِ، لَا عَلَى ضِدِّهِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ وَافَقَهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْقِيَاسِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَاسُ الشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ، فَصَارَ إجْمَاعًا مُتَيَقَّنًا وَبَاطِلًا لَا شَكَّ فِيهِ.
وَالْعَمْدُ ضِدُّ النِّسْيَانِ، وَالْمَعْصِيَةُ ضِدُّ الطَّاعَةِ، بَلْ قِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَجِّ؛ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا، لَا سِيَّمَا، وَالْحَنَفِيُّونَ وَالْمَالِكِيُّونَ لَا يَقِيسُونَ الْحَالِفَ عَامِدًا؛ لِلْكَذِبِ عَلَى الْحَالِفِ فَيَحْنَثُ غَيْرُ عَامِدٍ لِلْكَذِبِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، بَلْ يُسْقِطُونَ الْكَفَّارَةَ عَنْ الْعَامِدِ، وَيُوجِبُونَهَا عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ، وَلَا يَقِيسُونَ قَاتِلَ الْعَمْدِ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، بَلْ يُسْقِطُونَهَا عَنْ قَاتِلِ الْعَمْدِ، وَلَا يَرُونَ قَضَاءَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ؛ فَهَذَا تَنَاقُضٌ لَا خَفَاءَ بِهِ، وَتَحَكُّمٌ بِالدَّعْوَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَى الْعَامِدِ؛ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا لَمَا أَغْفَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، وَلَا نَسِيَاهُ، وَلَا تَعَمَّدَا إعْنَاتَنَا بِتَرْكِ بَيَانِهِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] وَكُلُّ شَرِيعَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا الْقُرْآنُ، وَلَا السُّنَّةُ فَهِيَ بَاطِلٌ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» فَصَحَّ أَنَّ مَا فَاتَ فَلَا سَبِيلَ إلَى إدْرَاكِهِ، وَلَوْ أُدْرِكَ أَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُدْرِكَ؛ لَمَا فَاتَ، كَمَا لَا تَفُوتُ الْمَنْسِيَّةُ أَبَدًا، وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَالْأُمَّةُ أَيْضًا كُلُّهَا مُجْمِعَةٌ عَلَى الْقَوْلِ وَالْحُكْمِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ فَاتَتْ إذَا خَرَجَ وَقْتُهَا، فَصَحَّ فَوْتُهَا بِإِجْمَاعٍ مُتَيَقَّنٍ، وَلَوْ أَمْكَنَ قَضَاؤُهَا وَتَأْدِيَتُهَا لَكَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا فَاتَتْ كَذِبًا وَبَاطِلًا.
فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ فِيهَا أَبَدًا.

الصفحة 12