كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (اسم الجزء: 2)

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَارِعًا (الْمُتَيَقِّنُ نَجَاسَتَهُ) وَلَوْ بِإِخْبَارِ عَدْلٍ رِوَايَةً فِيمَا يَظْهَرُ، فَالْمُرَادُ بِالْيَقِينِ مَا يُفِيدُ ثُبُوتَ النَّجَاسَةِ (يُعْفَى مِنْهُ عَمَّا يَتَعَذَّرُ) أَيْ يَتَعَسَّرُ (الِاحْتِرَازُ عَنْهُ غَالِبًا) ، وَإِنْ اخْتَلَطَ بِمُغَلَّظٍ كَمَا رَجَّحَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفَارَقَ دَمُهُ بِالْمَشَقَّةِ أَوْ كَثْرَتِهَا فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الِانْتِشَارِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَجِدُ إلَّا ثَوْبًا وَاحِدًا، فَلَوْ أُمِرُوا بِالْغُسْلِ كُلَّمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ لَعَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ، وَاحْتَرَزَ بِالْمُتَيَقِّنِ النَّجَاسَةَ عَمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ اخْتِلَاطُهُ بِهَا كَغَالِبِ الشَّوَارِعِ فَفِيهِ قَوْلَا الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ وَقَدْ مَرَّ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَاءُ الْمَيَازِيبِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا، بَلْ اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الْجَزْمَ بِطَهَارَتِهِ، وَأَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِطَهَارَةِ الْأَوْرَاقِ الَّتِي تُعْمَلُ وَتُبْسَطُ، وَهِيَ رَطْبَةٌ عَلَى الْحِيطَانِ الْمَعْمُولَةِ بِرَمَادٍ نَجِسٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــSعَنْهُ وَفِيهِ وَقْفَةٌ، وَمِثْلُهُ فِي عَدَمِ الْعَفْوِ مَا يَتَطَايَرُ مِنْهُ فِي زَمَنِ الْأَمْطَارِ؛ لِأَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالتَّحَفُّظِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا مَا جَرَتْ عَادَةُ الْكِلَابِ بِهِ مِنْ طُلُوعِهِمْ عَلَى الْأَسْبِلَةِ وَرُقَادِهِمْ فِي مَحَلِّ وَضْعِ الْكِيزَانِ، وَهُنَاكَ رُطُوبَةٌ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ.
وَمِمَّا شَمِلَهُ أَيْضًا طِينُ الشَّارِعِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ لَهُ مَا يَقَعُ كَثِيرًا مِنْ أَنَّهُ يَحْصُلُ مَطَرٌ بِحَيْثُ يَعُمُّ الطُّرُقَاتِ، وَمَا يَقَعُ مِنْ الرَّشِّ فِي الشَّوَارِعِ وَتَمُرُّ فِيهِ الْكِلَابُ وَتَرْقُدُ فِيهِ بِحَيْثُ تُتَيَقَّنُ نَجَاسَتُهُ، بَلْ وَكَذَا لَوْ بَالَتْ فِيهِ وَاخْتَلَطَ بَوْلُهَا بِطِينِهِ أَوْ مَائِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلنَّجَاسَةِ عَيْنٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَيُعْفَى مِنْهُ عَمَّا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا يُكَلَّفُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ مِنْهُ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ ضَعَفَةِ الطَّلَبَةِ.
وَيَنْبَغِي أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ فِي الدَّرْسِ عَنْ مَمْشَاةٍ لِمَسْجِدٍ بِرَشِيدَ مُتَّصِلَةٍ بِالْبَحْرِ وَبِالْمَسْجِدِ وَطُولُهَا نَحْوُ مِائَةِ ذِرَاعٍ، ثُمَّ إنَّ الْكِلَابَ تَرْقُدُ، وَهِيَ رَطْبَةٌ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْعَفْوِ فِيمَا لَوْ مَشَى عَلَى مَحَلٍّ تَيَقَّنَ نَجَاسَتَهُ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طِينِ الشَّارِعِ بِعُمُومِ الْبَلْوَى فِي طِينِ الشَّارِعِ دُونَ هَذَا إذْ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَشْيِ عَلَيْهَا دُونَ الشَّارِعِ (قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَارِعًا) أَيْ الْمَحَلُّ الَّذِي عَمَّتْ الْبَلْوَى بِاخْتِلَاطِهِ بِالنَّجَاسَةِ كَدِهْلِيزِ الْحَمَّامِ وَحَوْلَ الْفَسَاقِي مِمَّا لَا يُعْتَادُ تَطْهِيرُهُ إذَا تَنَجَّسَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ عَمَّا يَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ غَالِبًا. أَمَّا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِحِفْظِهِ وَتَطْهِيرِهِ إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، بَلْ مَتَى تُيُقِّنَتْ نَجَاسَتُهُ وَجَبَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمِنْهُ مَمْشَاةُ الْفَسَاقِي فَتَنَبَّهْ لَهُ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا يُخَالِفُهُ.
(قَوْلُهُ: يُعْفَى مِنْهُ عَمَّا يَتَعَذَّرُ) أَيْ فَإِنْ صَلَّى فِي الشَّارِعِ الْمَذْكُورِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ حَيْثُ لَا حَائِلَ لِمُلَاقَاتِهِ النَّجَسَ وَلَا ضَرُورَةَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ حَتَّى يُعْذَرَ، بِخِلَافِ مَا يُصِيبُ بَدَنَهُ أَوْ ثَوْبَهُ فَيُعْفَى عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ (قَوْلُهُ: أَيْ يَتَعَسَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ) أَيْ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ لِبَاسَ الشِّتَاءِ فِي زَمَنِهِ أَوْ زَمَنِ الصَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ غَسْلَهُ (قَوْلُهُ: وَإِنْ اخْتَلَطَ بِمُغَلَّظٍ) أَيْ وَلَوْ دَمَ كَلْبٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْفَ عَنْ الْمَحْضِ مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ (قَوْلُهُ: وَفَارَقَ دَمُهُ) أَيْ حَيْثُ لَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ (قَوْلُهُ: فِي هَذَا) أَيْ طِينِ الشَّارِعِ (قَوْلُهُ: دُونَ ذَاكَ) أَيْ دَمِ الْكَلْبِ الْغَيْرِ الْمُخْتَلِطِ (قَوْلُهُ: وَقَدْ مَرَّ) أَيْ أَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَيَحْتَمِلُ النَّجَاسَةَ إلَّا أَنَّا نُقَدِّمُ الْأَصْلَ عَلَى غَيْرِهِ (قَوْلُهُ: الْمَعْمُولَةِ) أَيْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: وَلَوْ بِإِخْبَارِ عَدْلٍ) إنَّمَا احْتَاجَ إلَى هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَفْهُومِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ يُعْفَى مِنْهُ عَمَّا تَعَذَّرَ إلَخْ لَا لِمَنْطُوقِهِ،؛ لِأَنَّهُ إذَا عُفِيَ عَنْ الْمُتَيَقَّنِ النَّجَاسَةِ فِي ذَلِكَ فَمَظْنُونُهَا أَوْلَى (قَوْلُهُ: وَفَارَقَ دَمُهُ) أَيْ الَّذِي أَصَابَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّارِعِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ إلَخْ) الْأَوْلَى حَذْفُ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ لِأَصْلِ الْمَتْنِ (قَوْلُهُ: الْجَزْمُ بِطَهَارَتِهِ) أَيْ وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلَا الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ (قَوْلُهُ: بِطَهَارَةِ الْأَوْرَاقِ) أَيْ إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَةُ الرَّمَادِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ النَّجَاسَةُ أَخْذًا مِمَّا عَلَّلَ بِهِ، أَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ لَكِنْ يُعْفَى عَنْ الْأَوْرَاقِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ فِي مَعْفُوَّاتِهِ:
وَالنَّسْخُ فِي وَرَقٍ آجُرَّهُ عَجَنُوا ... بِهِ النَّجَاسَةَ عَفْوٌ حَالَ كَتْبَتِهِ
مَا نَجَّسُوا قَلَمًا مِنْهُ وَمَا مَنَعُوا ... مِنْ كَاتِبٍ مُصْحَفًا مِنْ حِبْرِ لِيقَتِهِ

الصفحة 28