كتاب تفسير القاسمي = محاسن التأويل (اسم الجزء: 2)

الضلال، الذي كانوا فيه قبل إرساله، إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم. فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخبر العظيم له، أمر يسير جدا في جنب الخير الكثير. كما ينال الناس بأذى المطر، في جنب ما يحصل لهم به من الخير. وأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم، ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوه ويتكلوا عليه، ولا يخافوا غيره.
وأخبرهم بما له فيها من الحكم، لئلا يتهموا في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع صفاته وأسمائه. وسلّاهم بما أعطاهم مما هو أجل قدرا وأعظم خطرا مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزّاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوا فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله.
ثم قال ابن القيّم: ولما انقضت الحرب، انكفأ المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراريّ والأموال، فشق ذلك عليهم،
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ بن أبي طالب: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون، فإن هم جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل، وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده! لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزهم فيها. قال عليّ: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل، وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة. ولما عزموا على الرجوع إلى مكة، أشرف على المسلمين أبو سفيان، ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: قولوا نعم قد فعلنا. قال أبو سفيان: فذلكم الموعد. ثم انصرف هو وأصحابه. فلما كان في بعض الطريق، تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا! أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم، وقال: لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله ابن أبيّ: أركب معك، قال: لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف، وقالوا: سمعا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: يا رسول الله! إني أحب أن لا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته فأذن لي أسير معك، فأذن له، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم. فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء- ولم يعلم بإسلامه- فقال: ما وراءك يا معبد؟
فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل

الصفحة 459