كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين (اسم الجزء: 2)

مَذْهَبِكُمْ.
فَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، صَارَ مَنْ أَفْتَى أَوْ حَكَمَ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ أَحَقَّ بِالْقَبُولِ مِمَّنْ أَفْتَى بِقَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَهَذَا مِنْ بَرَكَةِ التَّقْلِيدِ عَلَيْكُمْ.
وَتَمَامُ ذَلِكَ الْوَجْهُ الثَّمَانُونَ: أَنَّكُمْ إنْ رُمْتُمْ التَّخَلُّصَ مِنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ، وَقُلْتُمْ: بَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وَقَالَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْكُمْ: يَسُوغُ أَوْ يَجِبُ تَقْلِيدُ مَنْ قَلَّدْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ هُمْ مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَمُ مِنْهُ، كَانَ أَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ مُعَارَضَةَ قَوْلِكُمْ بِقَوْلِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى فِي ضَرْبِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
ثُمَّ يُقَالُ: مَا الَّذِي جَعَلَ مَتْبُوعَكُمْ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْ مَتْبُوعِ الْفِرْقَةِ الْأُخْرَى؟ بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ؟ وَهَلْ تَقَطَّعَتْ الْأُمَّةُ أَمْرَهَا بَيْنَهَا زُبُرًا وَصَارَ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ إلَّا بِهَذَا السَّبَبِ؟ ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَدْعُوا إلَى مَتْبُوعِهَا وَتَنْأَى عَنْ غَيْرِهِ وَتَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ مُفْضٍ إلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَجَعْلِ دِينِ اللَّهِ تَابِعًا لِلتَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ وَعُرْضَةً لِلِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِلِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهِ، وَيَكْفِي فِي فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ تَنَاقُضُ أَصْحَابِهِ وَمُعَارَضَةُ أَقْوَالِهِمْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ إلَّا إيجَابُهُمْ تَقْلِيدَ صَاحِبِهِمْ وَتَحْرِيمُهُمْ تَقْلِيدَ الْوَاحِدِ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ.
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ: أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ حَكَمُوا عَلَى اللَّهِ قَدَرًا وَشَرْعًا بِالْحُكْمِ الْبَاطِلِ جِهَارًا الْمُخَالِفِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ فَأَخْلَوْا الْأَرْضَ مِنْ الْقَائِمِينَ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ، وَقَالُوا: لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ عَالِمٌ مُنْذُ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ الْقُشَيْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ الْمُقَلِّدُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِيمَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ وَيَكُونُ لَهُ وَجْهٌ يُفْتِي وَيَحْكُمُ بِهِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَجَعَلُوهُمْ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ: طَائِفَةٌ أَصْحَابُ وُجُوهٍ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ وَأَبِي حَامِدٍ، وَطَائِفَةٌ أَصْحَابُ احْتِمَالَاتٍ لَا أَصْحَابَ وُجُوهٍ كَأَبِي الْمَعَالِي، وَطَائِفَةٌ لَيْسُوا أَصْحَابَ وُجُوهٍ وَلَا احْتِمَالَاتٍ كَأَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَلَفُوا مَتَى انْسَدَّ بَابُ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعِلْمِ، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدُ أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْهُمَا، وَلَا يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ بِمَا فِيهِمَا حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَى قَوْلِ مُقَلَّدِهِ وَمَتْبُوعِهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ حَكَمَ بِهِ

الصفحة 196