كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين (اسم الجزء: 2)

عَلَى سُجُودِ أَحَدِهِمْ عَلَى ثَوْبِهِ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، وَلَا يُقَالُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَعْلَمْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَهُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَأْمُرْ رَسُولَهُ بِإِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي حَالِ الشِّرْكِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مِنْهَا مَا لَا مَسَاغَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ حِينَ الدُّخُولِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِرِبًا أَوْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهَا، بَلْ جَعَلَ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَمِنْهُ تَقْرِيرُ الْحَبَشَةِ بِاللَّعِبِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْحِرَابِ، وَتَقْرِيرُهُ عَائِشَةُ عَلَى النَّظَرِ إلَيْهِمْ، وَهُوَ كَتَقْرِيرِهِ النِّسَاءَ عَلَى الْخُرُوجِ وَالْمَشْيِ فِي الطُّرُقَاتِ وَحُضُورِ الْمَسَاجِدِ وَسَمَاعِ الْخُطَبِ الَّتِي كَانَ يُنَادِي بِالِاجْتِمَاعِ لَهَا، وَتَقْرِيرُهُ الرِّجَالَ عَلَى اسْتِخْدَامِهِنَّ فِي الطَّحْنِ وَالْغَسْلِ وَالطَّبْخِ وَالْعَجْنِ وَعَلَفِ الْفَرَسِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَلَمْ يَقُلْ لِلرِّجَالِ قَطُّ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ ذَلِكَ إلَّا بِمُعَاوَنَتِهِنَّ أَوْ اسْتِرْضَائِهِنَّ حَتَّى يَتْرُكْنَ الْأُجْرَةَ، وَتَقْرِيرُهُ لَهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ فَرْضٍ وَلَا حَبٍّ وَلَا خُبْزٍ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: لَا تَبْرَأُ ذِمَمُكُمْ مِنْ الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ إلَّا بِمُعَاوَضَةِ الزَّوْجَاتِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْحَبِّ الْوَاجِبِ لَهُنَّ مَعَ فَسَادِ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ أَوْ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجَاتِ حَقَّهُنَّ مِنْ الْحَبِّ، بَلْ أَقَرَّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَادُونَ نَفَقَتَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَقَرَّرَ وُجُوبَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَجَعَلَهُ نَظِيرَ نَفَقَةِ الرَّقِيقِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَالصَّلَاةِ وَهُوَ يَرَاهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى بَقَاءِ الْوُضُوءِ وَقَدْ خَفَقَتْ رُءُوسُهُمْ مِنْ النَّوْمِ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَتِهِ، وَتَطَرُّقُ احْتِمَالِ كَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مَرْدُودٌ بِعِلْمِ اللَّهِ بِهِ، وَبِأَنَّ الْقَوْمَ أَجَلُّ وَأَعْرَفُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ خَفَاءَ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَرَاهُمْ وَيُشَاهِدُهُمْ خَارِجًا إلَى الصَّلَاةِ مُمْتَنِعٌ.
وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى جُلُوسِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إذَا تَوَضَّئُوا.
وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى مُبَايَعَةِ عُمْيَانِهِمْ عَلَى مُبَايَعَتِهِمْ وَشِرَائِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَهْيٍ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ يَوْمًا مَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَاجَةَ الْأَعْمَى إلَى ذَلِكَ كَحَاجَةِ الْبَصِيرِ.
وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ الَّتِي يُخْبِرُهُمْ بِهَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، وَتَقْرِيرُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي يُخْبِرُهُمْ بِهَا النِّسَاءُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ، بَلْ الِاكْتِفَاءُ بِمُجَرَّدِ الْإِهْدَاءِ مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ. وَمِنْهُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى قَوْلِ الشِّعْرِ وَإِنْ تَغَزَّلَ أَحَدُهُمْ فِيهِ بِمَحْبُوبَتِهِ وَإِنْ قَالَ فِيهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي غَيْرِهِ لَأُخِذَ بِهِ كَتَغَزُّلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بِسُعَادَ، وَتَغَزُّلِ حَسَّانَ فِي شِعْرِهِ وَقَوْلِهِ فِيهِ:
كَأَنَّ خَبِيثَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءٌ
ثُمَّ ذَكَرَ وَصْفَ الشَّرَابِ، إلَى أَنْ قَالَ:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا لَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ

الصفحة 280