كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين (اسم الجزء: 2)

فِي جَهْرِهِ بِالِاسْتِفْتَاحِ فِي الْفَرْضِ فِي مُصَلَّى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِهِ، ثُمَّ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ مَالِكٍ بِوَصْلِ التَّكْبِيرِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْتَاحٍ وَلَا تَعَوُّذٍ. وَانْظُرْ الْعَمَلَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي اعْتِبَارِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَمُفَارَقَتِهِ لِمَكَانِ التَّبَايُعِ لِيَلْزَمَ الْعَقْدَ وَلَا يُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ صَحَابِيٌّ، ثُمَّ الْعَمَلُ بِهِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَإِمَامُهُمْ وَعَالِمُهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَعْمَلُ بِهِ وَيُفْتِي بِهِ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، ثُمَّ صَارَ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ رَبِيعَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَانْظُرْ إلَى الْعَمَلِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ خَلْفَهُ وَهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعُ مِنْهُ، ثُمَّ الْعَمَلُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ حَتَّى كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا رَأَى مَنْ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَصَبَهُ، وَهُوَ عَمَلٌ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ يَعْمَلُ بِهِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْصَارِ كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُمْ، ثُمَّ صَارَ الْعَمَلُ بِخِلَافِهِ. وَانْظُرْ إلَى الْعَمَلِ الَّذِي كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ فِي الْمَسْجِدِ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ، وَصَلَّتْ عَائِشَةُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الْمَسْجِدِ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا نَرَى أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ حَضَرَ مَوْتَهُ فَتَخَلَّفَ عَنْ جِنَازَتِهِ، فَهَذَا عَمَلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَكُمْ، قَالَهُ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَذَا الْعَمَلُ حَقٌّ، وَلَوْ تُرِكَتْ السُّنَنُ لِلْعَمَلِ لَتَعَطَّلَتْ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَرَسَتْ رُسُومُهَا وَعَفَتْ آثَارُهَا، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ قَدْ اطَّرَدَ بِخِلَافِ السُّنَّةِ الصَّرِيحَةِ عَلَى تَقَادُمِ الزَّمَانِ وَإِلَى الْآنَ، وَكُلُّ وَقْتٍ تُتْرَكُ سُنَّةٌ وَيُعْمَلُ بِخِلَافِهَا وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَمَلُ فَتَجِدُ يَسِيرًا مِنْ السُّنَّةِ مَعْمُولًا بِهِ عَلَى نَوْعِ تَقْصِيرٍ. وَخُذْ بِلَا حِسَابٍ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُنَنٍ قَدْ أُهْمِلَتْ وَعُطِّلَ الْعَمَلُ بِهَا جُمْلَةً؛ فَلَوْ عَمِلَ بِهَا مَنْ يَعْرِفُهَا لَقَالَ النَّاسُ: تُرِكَتْ السُّنَّةُ؛ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ خَالَفَ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ لَمْ يَقَعْ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ إذَا خَالَفَ السُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا، وَكُلُّ عَمَلٍ طَرِيقُهُ النَّقْلُ فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُ سُنَّةً صَحِيحَةً أَلْبَتَّةَ.

[تَرْكُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِآمِينَ فِي الصَّلَاةِ]
فَلْنَرْجِعْ إلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُرِكَ فِيهَا الْمُحْكَمُ لِلْمُتَشَابِهِ، فَنَقُولُ:
[الْجَهْرُ بِآمِينَ]
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ: تَرْكُ السُّنَّةِ الْمُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِآمِينَ فِي الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَلَوْلَا جَهْرُهُ بِالتَّأْمِينِ لَمَا أَمْكَنَ الْمَأْمُومُ أَنْ يُؤَمِّنَ مَعَهُ وَيُوَافِقَهُ فِي التَّأْمِينِ،

الصفحة 285