كتاب مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه (اسم الجزء: 2)
بما أُمرتم به، وإياكم والتصرّف في الأمور الإلهيّة؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فلا تجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار، بل هي أمارات وعلامات لها، ولا بدّ في الإيجاب من لطف الله وكرمه أو خذلانه، كما ورد: "لن يدخل أحدكم عمله الجنة"، والفاء في {فَسَنُيَسِّرُهُ} تُفصح عن هذه المقدّرات. انتهى كلام الطيبيّ (¬1).
(ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى}) أي حقوق ماله {وَاتَّقَى} أي ربه، فاجتنب محارمه، وقيل: اتقى البخلَ {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي بالملة الحسنى، وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، أو بالكلمة الحسنى، وهي لا إله إلا الله {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي نهيّئه، ونُهَوّن عليه الخَلّة اليسرى، وهي العمل الصالح، والخير الراجح. وقيل: الجنّة {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} أي بماله، وقيل: بحقّ الله، وهو قريب مما قبله {وَاسْتَغْنَى} عن ربّه، فلم يتّقه، أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي بالإسلام، أو الجنة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي للْخَلَّة المؤدّية إلى النار، فتكون الطاعة أعسر شيء عليه، وأشدّ، أو سَمّى طريق الخير باليسرى؛ لأن عاقبتها اليسر، وطريق الشرّ بالعسرى؛ لأن عاقبتها العسر، أو أراد بهما طريق الجنة والنار (¬2).
وزاد في البزار بعد أن ساق الآيات: "فقال القوم بعضهم لبعض: فالجِدّ إذًا"، وأخرجه الطبراني في آخر حديث سراقة، ولفظه: "فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لعمله، قال: الآن الجدّ، الآن الجدّ"، وفي آخر حديث عمر عند الفريابي: "فقال عمر: ففيم العمل إذا؟، قال: كلٌّ لا يُنال إلا بالعمل، قال عمر: إذًا نجتهد"، وأخرج الفريابي بسند صحيح إلى بُشير بن كعب أحد كبار التابعين قال: "سأل غلامان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيم العمل، فيما جَفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم شيء نَستأنفه؟
¬__________
(¬1) "الكاشف" 2/ 538.
(¬2) راجع "تفسير النسفي" 4/ 362 و"المفهم" 6/ 658 - 659.