كتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (اسم الجزء: 2)

ومن صنائع السلطان صلاح الدين أنه أسقط المكوس، والضرائب عن الحجاج بمكة، وقد كان يؤخذ منهم شيء كثير، ومن عجز عن أدائه حبس، فربما فاته الوقوف بعرفة، وعوض أميرها ثمال إقطاعا بديار مصر، يحمل إليه منه في كل سنة ثمانية آلاف إردب غلة، لتكون عونًا له ولأتباعه، وقرر للمجاورين أيضا غلَّات تحمل إليهم وصلات، فرحمة الله عليه في سائر الأوقات، فلقد كان إمامًا عادلا، وسلطانا كاملا لم يل مصر بعد الصحابة مثله، لا قبله ولا بعده!
وقد كان الخليفة المستضيء أرسل إليه في سنة أربع وسبعين خلعًا سنية جدًّا، وزاد في ألقابه "معز أمير المؤمنين". ثم لما ولي الخليفة الناصر في سنة ست وسبعين أرسل إليه خلعة الاستمرار، ثم أرسل إليه في سنة اثنتين وثمانين يعاتبه في تلقيبه بالملك الناصر، مع أنه لقب أمير المؤمنين، فأرسل يعتذر إليه بأن ذلك كان من أيام الخليفة المستضيء، وأنه إن لقبه أمير المؤمنين بلقب، فهو لا يعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب.
قال العماد: وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون، فاتفق أن بعضهم أخذ صبيًّا رضيعًا من مهده ابن ثلاثة أشهر، فوجدت عليه أمه وجدًا شديدًا، واشتكت إلى ملوكهم؛ فقالوا لها: إن سلطان المسلمين رحيم القلب، فاذهبي إليه، فجاءت إلى السلطان صلاح الدين فبكت، وشكت أمر ولدها، فرق لها رقة شديدة، ودمعت عيناه، فأمر بإحضار ولدها، فإذا هو بيع في السوق، فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري، ولم يزل واقفا حتى جيء بالغلام، فدفعه إلى أمه، وحملها على فرس إلى قومها مكرمة.
واستمر السلطان صلاح الدين على طريقته العظيمة؛ من مثابرة الجهاد للكفار، ونشر العدل، وإبطال المكوس والمظالم، وإجراء البر والمعروف إلى أن أصيب به

الصفحة 20