كتاب شرح التلويح على التوضيح (اسم الجزء: 2)

فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظَ مَعْنَاهُ اجْتَنِبُوا عَنْ مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ؛ لِأَنَّكُمْ إنْ أَتَيْتُمْ بِمِثْلِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَلَمَّا أَدْخَلَ فَاءَ التَّعْلِيلِ عَلَى قَوْلِهِ {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] جَعَلَ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ.
وَإِنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِاعْتِبَارِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ بِوُجُودِ السَّبَبِ يَجِبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْمُسَبِّبِ حَتَّى لَوْ لَمْ تُقَدَّرْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا يَصْدُقُ التَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ صَادِقًا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ هَذَا الْحُكْمُ الْجُزْئِيُّ صَادِقًا فَإِذَا ثَبَتَتْ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْفَاءِ، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونُ مَفْهُومًا بِطَرِيقِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ دَلَالَةً نَصًّا لَا قِيَاسًا فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي يُعْرَفُ فِيهِ الْعِلَّةُ اسْتِنْبَاطًا وَاجْتِهَادًا (وَنَظِيرِهِ) أَيْ: نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا النَّظِيرَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اعْتِبَارٌ حَسَبَ الِاعْتِبَارِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الِاعْتِبَارِ فِي الْقِيَاسِ، وَكَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ الْعِلَّةِ.
(قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ» بِالنَّصْبِ أَيْ: بِيعُوا الْحِنْطَةَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ، وَالْبَيْعُ مُبَاحٌ يُصْرَفُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَمْرِ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ وَهِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ فَيَكُونُ حُجَّةً رُبَّمَا يَجْعَلُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ إلْحَاقَ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَتْ لِذِكْرِ الْعِلَلِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذِكْرَ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا لَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بَلْ فَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ مَعًا فَإِنَّهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَدْخَلُ فِي الْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ.
(قَوْلُهُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ) إشَارَةٌ إلَى دَلِيلٍ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُ ذَلِكَ آحَادًا، وَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَاطِعٍ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً، وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْهُ بِالتَّعْيِينِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ عَمَلَهُمْ بِالْقِيَاسِ وَمُبَاحَثَتَهُمْ فِيهِ بِتَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ تَكَرَّرَ وَشَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهَذَا وِفَاقٌ، وَإِجْمَاعٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إنَّمَا كَانَ فِي الْبَعْضِ لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ أَوْ لِعَدَمِ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ، وَشُيُوعُ الْأَقْيِسَةِ الْكَثِيرَةِ بِلَا إنْكَارٍ مَقْطُوعٌ بِهِ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الْعَمَلَ كَانَ بِهَا لِظُهُورِهَا لَا لِخُصُوصِيَّاتِهَا.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمَهُ فِي زَمَانٍ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَوُجُودِ مَكَّةَ وَوُجُودِ بَغْدَادَ وَعَدَمِ جَبَلٍ مِنْ الْيَاقُوتِ وَبَحْرٍ مِنْ

الصفحة 111