كتاب شرح التلويح على التوضيح (اسم الجزء: 2)

وَإِنَّمَا لَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِالْقِيَاسِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّ فِي الْوَضْعِ قَدْ لَا يُرَاعَى الْمَعْنَى كَوَضْعِ الْفَرَسِ وَالْإِبِلِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يُرَاعَى الْمَعْنَى كَمَا فِي الْقَارُورَةِ وَالْخَمْرِ لَكِنَّ رِعَايَةَ الْمَعْنَى إنَّمَا هِيَ لِلْوَضْعِ لَا لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ حَتَّى لَا تُطْلَقُ الْقَارُورَةَ عَلَى الدَّنِّ لِقَرَارِ الْمَاءِ فِيهِ، فَرِعَايَةُ الْمَعْنَى لِأَوْلَوِيَّةِ وَضْعِ هَذَا اللَّفْظِ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ.
(كَالْخَمْرِ وُضِعَ لِشَرَابٍ مَخْصُوصٍ بِمَعْنًى، وَهُوَ الْمُخَامَرَةُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ لِأَنَّهُ إنْ أُطْلِقَ مَجَازًا فَلَا نِزَاعَ فِيهِ لَكِنْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَعَ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ أُطْلِقَ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ وَضْعِ الْعَرَبِ، وَكَذَا الزِّنَا عَلَى اللِّوَاطَةِ وَلَا يُقَالُ الذِّمِّيُّ أَهْلٌ لِلطَّلَاقِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلظِّهَارِ كَالْمُسْلِمِ) هَذَا تَفْرِيعُ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ (لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ) وَهُوَ الْمُسْلِمُ (حُرْمَةٌ تَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ وَفِي الذِّمِّيِّ حُرْمَةٌ لَا تَنْتَهِي بِهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لَهَا. وَكَذَا تَعْلِيلُ الرِّبَا بِالطُّعْمِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ حُرْمَةً مُطْلَقَةً، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّسَاوِي)
حَتَّى لَوْ رُوعِيَ التَّسَاوِي لَا تَبْقَى
ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمُسَاوَاةِ فِي عِلَّةٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِذَلِكَ فَلَوْ قَالَ: النَّبِيذُ شَرَابٌ مُشْتَدٌّ فَيُوجِبُ الْحَدَّ كَمَا يُوجِبُ الْإِسْكَارَ أَوْ كَمَا يُسَمَّى خَمْرًا كَانَ بَاطِلًا مِنْ الْقَوْلِ خَارِجًا عَنْ الِانْتِظَامِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ.
وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَاسَ النَّفْيَ بِالنَّفْيِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقْتَضِي ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ كَانَ نَفْيًا أَصْلِيًّا، وَالنَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ النَّفْيُ الطَّارِئُ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ الْقِيَاسِ وَبِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ يُذْكَرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُنَاظِرُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُقْتَضِي فِي الْأَصْلِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِيَكُونَ النَّفْيُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَقَدْ سَبَقَ نُبَذٌ مِنْ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ.
(قَوْلُهُ: لَكِنْ لَا يُحْمَلُ) أَيْ: لَفْظُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازًا عِنْدَ إرَادَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُطْلَقَ مَجَازًا عَلَى شَرَابٍ يُخَامِرُ الْعَقْلَ فَيَشْمَلُ الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ.
(قَوْلُهُ: وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّسَاوِي) يَعْنِي: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ حُرْمَةٌ تَنْتَهِي بِالتَّسَاوِي بِالْكَيْلِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ فِي بَيْعِ الْمَقْلِيِّ بِغَيْرِهِ وَبَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَنْتَهِي بِالْكَيْلِ.
قُلْنَا بُطْلَانُ الِانْتِهَاءِ بِالْكَيْلِ إنَّمَا جَاءَ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقَلْيُ، وَالطَّحْنُ لَا بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا أَثْبَتَهَا مُتَنَاهِيَةً بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا أَعْنِي: قَبْلَ الْقَلْيِ وَالطَّحْنِ. (قَوْلُهُ: وَالتَّسَاوِي بِالْعَدَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا) قِيلَ عَلَيْهِ: أَنَّ التَّسَاوِيَ بِالْوَزْنِ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَهُوَ كَافٍ فِي انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ.
(قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ) أَيْ: عُذْرَ الْخَطَأِ دُونَ عُذْرِ النِّسْيَانِ لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَطَأِ بِالتَّثَبُّتِ وَالِاحْتِيَاطِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ سَمَاوِيٌّ مَحْضٌ جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ)

الصفحة 116