كتاب شرح التلويح على التوضيح (اسم الجزء: 2)

ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مَالًا مُسَمًّى ثُمَّ أَمَرَ بِأَدَاءِ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ وَهِيَ الْأَرْزَاقُ الْمُخْتَلِفَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ الْأَدَاءُ إلَّا بِالِاسْتِبْدَالِ فَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِبْدَالِ كَالسُّلْطَانِ يَعِدُ مَوَاعِيدَ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ يَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِأَدَائِهَا مِنْ مَالٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَهُ يَكُونُ إذْنًا بِالِاسْتِبْدَالِ.
فَكَذَا هَاهُنَا مُثْبِتٌ هُنَاكَ حُكْمَانِ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ، وَصَلَاحِيَةُ عَيْنِ الشَّاةِ لَأَنْ تَكُونَ مَصْرُوفَةً إلَى الْفَقِيرِ، فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» فَقَدْ عَلَّلْنَاهُ بِالْحَاجَةِ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مَعَ وَسَخِهَا حَلَّتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَإِذَا كَانَتْ عَيْنُ الشَّاةِ صَالِحَةً لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ لِلْحَاجَةِ تَكُونُ قِيمَتُهَا صَالِحَةً أَيْضًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَالتَّعْلِيلُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ النَّصِّ بَلْ يَكُونُ التَّغْيِيرُ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ فَيَكُونُ تَغْيِيرُ النَّصِّ بِالنَّصِّ مُجْتَمِعًا مَعَ التَّعْلِيلِ فِي حُكْمٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ النَّصِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَصَارَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQذِكْرَ اسْمِ الشَّاةِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهَا أَيْسَرَ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ أَسْهَلُ وَيَدُهُ إلَيْهِ أَوْصَلُ؛ وَلِكَوْنِهَا مِعْيَارًا لِمِقْدَارِ الْوَاجِبِ إذْ بِهَا تُعْرَفُ الْقِيمَةُ فَإِنْ قِيلَ: إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الشَّاةِ بِعِبَارَةِ النَّصِّ، وَجَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِدَلَالَتِهِ فَمَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ بِالْحَاجَةِ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا وَقَعَ بِحُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الشَّاةِ صَالِحَةً لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ حَتَّى يَمْتَنِعَ تَعْلِيلُهُ بَلْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاحِيَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَمَا كَانَتْ بَاطِلَةً فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْأَوْسَاخِ وَلِهَذَا كَانَ تَقَبُّلُ الْقَرَابِينَ بِالْإِحْرَاقِ، وَأَيْضًا مَحَالُّ التَّصَرُّفَاتِ إنَّمَا تُعْرَفُ شَرْعًا كَصَلَاحِيَةِ الْخَلِّ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ دُونَ الْخَمْرِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا حُكْمًا شَرْعِيًّا عَلَّلْنَاهُ بِالْحَاجَةِ أَيْ: بِحَاجَةِ الْفَقِيرِ إلَى الشَّاةِ أَوْ بِكَوْنِهَا دَافِعَةً لِحَاجَتِهِ لِنُعَدِّيَ الْحُكْمَ إلَى قِيمَةِ الشَّاةِ، وَنَجْعَلَهَا صَالِحَةً لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقِيمَةِ أَشَدُّ وَهِيَ لِلْحَاجَةِ أَدْفَعُ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ هَاهُنَا حُكْمًا هُوَ وُجُوبُ الشَّاةِ، وَآخَرَ هُوَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ. وَثَالِثًا هُوَ صَلَاحِيَةُ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ، وَالتَّعْلِيلُ إنَّمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْ: صَلَاحِيَةِ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْ: فِي هَذَا الْحُكْمِ تَغْيِيرٌ بَلْ تَغْيِيرُ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الشَّاةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّصِّ أَيْ: بِدَلَالَةِ النَّصِّ الْآمِرِ بِإِيفَاءِ حَقِّ الْفَقِيرِ وَهَذَا التَّغْيِيرُ مُقَارِنٌ لِلتَّعْلِيلِ فِي حُكْمٍ آخَرَ هُوَ صَلَاحِيَةُ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْآخَرِ تَغْيِيرُ النَّصِّ أَصْلًا إذْ لَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى

الصفحة 120