كتاب شرح التلويح على التوضيح (اسم الجزء: 2)

شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحِلَّ الْجُزْءِ أَيْ: حَوَّاءَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ثُمَّ نُسِخَ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بَلْ الدَّلِيلُ الثَّانِي بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً لَنَا، وَقَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ نَصٌّ مَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّةً إلَّا فِي وَقْتِ نُزُولِهِ فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَلَا. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا إمَّا بِالْتِزَامِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ أَيْ: فِي كُلِّ صُورَةٍ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُغَيَّرْ، وَإِمَّا بِأَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةٍ مُوجَبَةٍ قَطْعًا إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ الْمَذْكُورُ)
اعْلَمْ أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَأْمُورًا بِهِ بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْبَقَاءِ، إنَّمَا الْبَقَاءُ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الشَّيْءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّسْخَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ مَصْلَحَةٍ لِامْتِنَاعِ الْعَبَثِ عَلَى الْحَكِيمِ تَعَالَى بَلْ يَكُونُ لِحِكْمَةٍ خَفِيَتْ أَوَّلًا فَظَهَرَتْ ثَانِيًا، وَهَذَا رُجُوعٌ عَنْ الْمَصْلَحَةِ الْأَوْلَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى فَيَلْزَمُ الْبَدَاءُ وَالْجَهْلُ وَكِلَاهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسْخِ بِمَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ نَسْخُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي زَمَنِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْقَوْلَ بِتَأْبِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِدَلِيلِ نَقْلِيٍّ لَا يُقَالُ: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ كَانَتْ جَائِزَةً بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَرَفْعُهَا لَا يَكُونُ نَسْخًا وَلَوْ سُلِّمَ كَانَتْ فِي حَقِّ أُمَّةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً إلَى ظُهُورِ شَرِيعَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ وَاحْتِمَالُ التَّقْيِيدِ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ، فَلَا يُعْبَأُ بِهِ، وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ عِنْدَنَا بِالشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي زَمَانٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ فَرَفْعُهَا يَكُونُ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ.
وَأَجَابَ ثَانِيًا عَنْ دَلِيلِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ النَّسْخِ عَقْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ، وَأَشَارَ ثَالِثًا إلَى بُطْلَانِ دَلِيلِهِمْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَبَدُّلُ الْأَفْعَالِ حُسْنًا، وَقُبْحًا بِحَسْبِ تَبَدُّلِ الْأَزْمَانِ، وَالْأَحْوَالِ، وَالْأَشْخَاصِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الِاعْتِرَاضُ إنَّمَا هُوَ عَلَى فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَائِلٌ بِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا، وَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي صُورَةٍ مَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ مَذْهَبِهِ، فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ، وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ لِلِاسْتِصْحَابِ يَكُونُ دَفْعًا لِكَلَامِهِ لَا تَوْجِيهًا لَهُ

(قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَحَلُّهُ) أَيْ: مَحَلُّ النَّسْخِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَرْعِيٌّ لَمْ يَلْحَقْهُ تَأْبِيدٌ، وَلَا تَوْقِيتٌ فَخَرَجَ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ، وَالْحِسِّيَّةُ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ أَوْ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ مِمَّا يُؤَدِّي نَسْخُهُ إلَى كَذِبٍ أَوْ جَهْلٍ بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ عَنْ حِلِّ الشَّيْءِ أَوْ حُرْمَتِهِ

الصفحة 64