كتاب ديوان المعاني (اسم الجزء: 2)

(الفصل الثاني من الباب التاسع)
في ذكر البلاغة قال بعض الحكماء: البلاغة قول تضطر العقول إلى فهمه، قال الشيخ أبو هلال يعني قولاً واضح المعنى غيرُ مشكل المغزى. وسأل معاوية عمرو بن العاص من أبلغ الناس؟ قال من اقتصر على الإيجاز وترك الفضول. وليس يصلح الإيجاز في كل مكان كما لا تصلح الإطالة في كل أوان بل لكل واحد منهما حينٌ يحسن فيه ومقام يليق به إن أزلته عنه لم توفه حقه ولم تسلك به طرقه. وقال محمد الأمين عليكم بالأيجاز فإن للإيجاز إفهاماً وللإطالة استبهاماً. أي عليكم بالإيجاز فيما كان الإيجاز فيه أحسن وأنجع فأما إذا كانت الإطالة أرد وأنفع فليس للإيجاز موقعٌ يحمدَ ولا حالٌ تعتمد. والإيجاز بجميع الشعر أليق وبجميع الرسائل والخطبِ وقد يكون من الرسائل والخطب ما يكون الإيجاز فيه عياً ولا أعرفه إلا بلاغة في جميع الشعر لأن سبيل الشعر أن يكون كلامه كالوحي ومعانيه كالسحر مع قربها من الفهم والذي لا بد منه حسن المعرض ووضوح الغرض كقول النابغة الذبياني
(فإنك كالليل الذي هو مدركي ... )
وقال الفرزدق:
(والشيبُ ينهض بالشبابِ كأنهُ ... ليلٌ يصيحُ بجانبيهِ نهارُ)
وقال أعرابي: أبلغُ الناس أسهلهم لفظاً وأحسنهم بديهةً. وهذا حسنٌ جداً لأن سهولة اللفظ وحسن البديهة يدلان على جودة القريحة والبلاغة الغريزية، ووعورة اللفظ تدل على تكلف وتعسف ولا شئ أذهب بماء الكلام وطلاوته ورونقه منهما ولا يحسن معهما الكلام أصلاً وإن كان لطيف المعنى نبيل الصنعة. وقد أجاد ابن الرومي في وقوله: البلاغةُ حسنُ الاقتضاب عند البديهة والغزارة يوم الإطالة. فجعل البلاغة في الغزارة كما حملها غيره في الإيجاز.

الصفحة 87