كتاب الوجيز في أصول الفقه الإسلامي (اسم الجزء: 2)

وسار الاجتهاد بعد ذلك على وتيرة واحدة، وزخم كبير طوال قرنين تقريبًا، وبلغ الفقه الإسلامي أوجَهُ، ونما، وازدهر، واستجاب لحاجات الناس ومقتضيات تطور الحياة، وأنتج ثروة فقهية زاهرة، مع بعض الخمول أحيانًا، وتراجع بعض الفقهاء والعلماء عن مسابقة الركب، واللحاق بالمقدمة، وفي ذات الوقت بدأ يظهر التقليد للأئمة والعلماء والمذاهب في مختلف الأصقاع والبلدان (١)، ولكن كان أكثر العلماء والفقهاء مجتهدين، حتى المحدثون منهم، كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، وجميع القضاة، ومعظم الولاة والخلفاء، وأكثرهم يجتهد ويستنبط الأحكام من المصادر المختلفة بطرق الاجتهاد السليمة، وكانت جماهير الأمة يستفتونهم، ويأخذون عنهم، ويتبعون آراءهم وأحكامهم.
الطور الثاني: وذلك ابتداء من منتصف القرن الرابع الهجري حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، أي: حوالي ألف سنة، وبدأ الاجتهاد في أول هذا الطور يتراجع، ويتجزأ، ويضطرب، ويتخلخل، ثم بدأ يتسرب إليه أنصاف العلماء ومن دونهم الذين بدؤوا يتطاولون على الاجتهاد، ويعبث بعضهم فيه، ويخرج على الأمة والناس بالأوهام والسخافات، وما يتناقض مع الشرع، ويتعارض مع قواعد أصول الفقه، ويتجاوز ضوابط الاجتهاد، وضعفت الأمة، وبدأ الانحطاط في المجتمع والدولة، مما دعا العلماء الغيورين على الدِّين أن يتصدَّوْا لهذه الآراء الواهية، وأن يقفوا أمام أدعياء العلم، وأن يعلنوا إغلاق باب الاجتهاد ليوصدوا هذا الباب أمام من ليس أهلًا للاجتهاد والنظر، ويقطعوا الطريق أمام أصحاب الأهواء من مختلف الفرق والمذاهب، وانحصر الاجتهاد غالبًا في مجتهد المذهب، ومجتهد المسائل، ومجتهد التخريج، ومجتهد الترجيح ... ، وأصبح أكثر الفقهاء والعلماء من هذه الطبقات، وإن ظهر لبعضهم اجتهادات قيمة، وآراء سديدة، وبزغ بينهم مجتهدون، ولكنهم قلة.
---------------
(١) نقل الزركشي عن ابن حزم أنه قال: "والتقليد إنما ابتُدئ به بعد المائة والأربعين من الهجرة، ولم يكن في الإسلام قبل ذلك مسلم واحد فصاعدًا يقلد عالمًا بعينه لا يخالفه" البحر المحيط (٦/ ٢٩٢).

الصفحة 272