كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
8 - كتاب الصَّلاة
سمّيت الصلاة صلاة لكونها متَّبعًا بها فِعْلَ الإِمام، فإن التّالي للسابقِ من الخيل يسمّى مصلِّيًا لكون رأسه عند صَلا السابق. كذا ذكره الباقلاّنِي، وهو الوجه عندي في تسمِيَتِهَا صلاة، لا أنها من تحريك الصلوين، فإِن المُقتدي يصلّي خلفَ الإِمام ويتَّبع فعلَه ويجري معه، ونظرًا إلى هذا الاستصحاب قال صاحب «الهداية»: إن ربط القدة هو للتَّضمُّن، فراعى في صلاة الجماعة التَّضمُّن، أعني أن صلاة الإِمام متضمِّنةٌ لصلاة المقتدي، فلم يكن الإِمام مجليًا والمقتدي مصليًا في الحس فقط، بل بِحَسَب المعنى أيضًا حتى صار الإِمام يَسْتَصْحِبُ صلاةَ المقتدي معه بحيث تَوَقَّفت صلاةُ المقتدي على صلاةِ إِمامِهِ صحةً وفسادًا؛ ولذا قال أصحابنا: إن اتحاد الصّلاتين من شرائط الاقتداء بخلاف الشافعي رضي الله عنه، فإنه خَالَفَنا في تلك الفروع كلِّها فلا سِرَايةَ عنده لصلاةَ الإِمام إلى صلاة المقتدي، وجاز الاقتداء عنده عند اختلافِ الصّلاتين فرضًا ونفلا حتى الاختلاف وقتًا أيضًا، وقد بسطناه من قبل. وقد علمت أن البخاري رحمه الله تعالى وسَّع فيه أزيدَ من الشّحافعية رحمهم الله تعالى، ومن هنا أجاز بتقدم تحريمة المقتدي على تحريمة الإِمام.
ثم لا يخفى عليك أن كلَّ عبادة تكون من المخلوق تعظيمًا لخالقه وخشيةً له أسمِّيها صلاة، والصلاة بهذا المعنى تشترك في جميع الخلق وإن اختلفت صورها، فصلاة كلَ ما نَاسَبَهُ، وإليه يُشير قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فأشار إلى اشتراك جميع الخَلْقِ في وظيفةِ الصلاةِ مع تغاير صُوَرِهَا كالسّجدة فإِنَّ الخلائِقَ كلُّها تَسْجُدُ لربِّها ولكن كلٌّ بِحَسَبِهَا، قال تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض} [الرعد: 15] فَوُقوعُ الظِّلال على الأرض هو سجودُها، وبالجملة حقيقةُ الصلاةِ مشتركةٌ في الخلائق كلِّها حتى رأيتُ في حديثٍ في قصة المعراج: «قف يا محمد فإن ربَّكَ يصلي». فَتَحَقَّقَتِ الصلاةُ في جنابه تعالى أيضًا، غير أَنَّ صلاةَ الخالقِ ما ناسَبَهُ، وصلاةَ المخلوقِ ما نَاسَبَهُ، وللبسط موضوع آخر.
واعلم أنَّهم اختلفوا في أن الرُّكوع كان في الأمم السالفة أم لا؟ فقال بعضهم: لا، وتَمَسَّكوا بما في المُسْنَدِ لأبي يَعْلَى عن علي رضي الله عنه، وقال بعضهم نعم وتمسكوا من قوله تعالى: {وَارْكَعِي مَعَ الراكِعِينَ} [آل عمران: 43]. قلت: ورأيت في كتابِ نصرانيّ أن صلاةَ المُنْفَرِدِ عِنْدَهُمْ كانت ساجدًا، والجماعةِ راكعًا، وصلاة اليهود قائمًا وفي بعض الأحوال ساجدًا. ومع هذا أظنُّ أنّه لا بُدَّ من ثبوتِ الرُّكوع في حقِّ أنبيائِهِم، ورأيت عن وَهْبِ بن مُنَبِّه أن الأنبياء السابِقِيْنَ كانوا مأمورِينَ بالوضوءُ عند كلِّ صلاة، وكانوا يصلون كصلاةِ هذه الأُمَّةِ على خلاف شاكلةِ أُمَمِهِمْ، ثم إن الاصطفاف من خصائِصِ هذه الأمة، فصلاتُهُم وإن كانت بالجماعةِ أيضًا إلا أنّه لم يكن فيهم الصَّفُّ.
الصفحة 3
632