كتاب فيض الباري على صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

فوق الثلاث ممنوعٌ، فكيف هاجرهنَّ شهرًا؟ قلتُ: إن المُهَاجَرَةَ إلى الثلاث مباحٌ، وأزواجُه كنَّ تسعةً أو إحدى عشرة، فحصل بضربِ التسعةِ في الثلاث شهرًا، فكأنه لم يهاجر كلهن إلا ثلاثًا، أما التناوب في المهاجرة فكان ركيكًا، فهاجرهنَّ معًا.
قوله: (يعودونه) وهذا في واقعة السقوط، لأنه صلى الله عليه وسلّم لم يكن عليلا في قِصة الإِيلاء. وفي البخاري عن عمر رضي الله عنه في قصة الإِيلاء، أنه قال: «صليت الفجر خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في المسجدِ»، بخلافِ قصة السقوط، فإنَّ قدمه كانت انفكت، على ما في بعض الروايات، فلم يكنْ يحضُر المسجد في تلك الأيام، وهذا كله يدُل على المغايرةِ بين القِصتين، فكيف غَفَلَ عنه الحافظ رحمه الله تعالى وجعلها في السنة التاسعة؟

قوله: (إنما جعل الإِمام) ... إلخ وهذا يدُل على شدَّةِ الربط بين صلاةِ الإمام والمقتدي، واعتبره الحنفية رحمهم الله تعالى، بخلاف الشافعية فإنه عندهم عبارةٌ عن الاتِّباع في الأَفعال فقط، حتى إنهم جعلوا التسميعَ على المقتدي، وليس معهم في تلك المسألة عن السلف إلا رجلٌ أو رجلين. وسنعود إلى تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: (فإذا كبر فكبروا) وقد مر مني أن الفاءَ عندهم تُستعملُ في التعقيب الذاتي أيضًا، ولا تنحصرُ في التعقيب الزماني، وحينئذٍ لا يدلُ على التعقيب في الأفعال، كما رامه الشافعية رحمهم الله تعالى، ويصدق على مذهبنا أيضًا، فإن المختارَ عندنا المقارَنةُ في جميع الأفعال. وعند الشافعية: التعقيب في جُملتها. وعند الصاحبين: المقارَنةُ إلا في التكبير والتسليم.
وروي في بعض طرقهُ: «إذا قرأ فأنصتوا» أيضًا، وعلله المحدثون، وقد كشفتُ حقيقتَه في رسالتي «فصلُ الخِطَاب» أن هناك حديثان: الأول ما في واقعة السقوط، ويرويه مَنْ كان منهم في السنة الخامسة، وليس فيه تلك القِطْعَةُ، لعدم الحاجة إليه فيه، لأنه سِيْقَ لبيانِ المشاكلةِ بين الإِمام والمقتدي، وسائرُ الأجزاءِ ذُكرت فيه تبعًا، والحديث الثاني يرويه مَنْ جاء منهم في السنة السابعة، وفيه تلك القِطعة، ويجيء بسطه أزيد من هذا.
واعلم أن صلاةَ القائمِ خلفَ القاعدِ جائزةٌ عندنا وعند الشافعية. وعند أحمد رضي الله عنه لا تجوز، بل يجب على القوم أن يقعدوا أيضًا وإن لم يكونوا مَرْضى، لأجل هذا الحديث. ثم قالوا: إن قعودَ الإِمام إن كان طارئًا يسعُ للقومِ أن يقوموا. وعند مالك: لا يجوز اقتداؤه مطلقًا. فذهب الحنفيةُ والشافعيةُ إلى نسخه، وإليه ذهب البخاري، وصرح به في موضعين من كتابه. قلتُ في جوابه: إن حاصل الحديث استحبابُ المشاكلةِ بين الإِمام والمأموم، لأن الإمامَ جُعِلَ لِيُؤتمَّ به، ولم يرد في بيان تفاصيل جواز القيام والقعود أنه متى يجوز ومتى لا يجوز، فليكله إلى الخارج كما قرره الشارعُ في موضعه.
ومحصَّلُه عدمُ ابتغاءِ الاقتداءِ بالإِمام القاعد، فإن اقتدَوا به فالمطلوبُ المشاكلةُ مهما أمكن. هذا في الحديث القولي. وأما وجه ما رواه أبو داود من واقعةٍ جُزئيةٍ، فالجواب عنه أن القومَ كانوا متنفلين؛ لأن الظاهرَ من حالهم أنهم صلوا الظهرَ في المسجد، لأنه بعيدٌ كلُّ البعدِ أن تبقى المساجدُ في تلك الأيام معطلةً عن الجماعة، ثم جاؤوا لعيادتِهِ صلى الله عليه وسلّم فوجدوه يُصلي

الصفحة 30