كتاب قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر (اسم الجزء: 2)

فجعلها مروان بن أبي حفصة مدحا في معن بن زائدة بعد أن غيرها وزاد فيها ونقص.
ودخل معن يوما على المنصور وقد أسن، فقال له: لقد كبرت يا معن! قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، فقال: إنك لجلد! قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، فقال:
وفيك بقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين، وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن بن زيد زاهد البصرة، فقال: ويح هذا؛ ما ترك لربه شيئا.
وحكى الأصمعي قال: وفد أعرابي على معن بن زائدة، فمدحه وطال مقامه على بابه، ولم تحصل له جائزة، فعزم على الرحيل، فخرج معن راكبا، فأمسك الأعرابي عنان دابته وقال: [من الطويل]
وما في يديك الخير يا معن كله … وفي الناس معروف وعنك مذاهب
ستدري بنات العم ما قد أتيته … إذا فتّشت عند الإياب الحقائب
فأوقر معن خمس نوق من كرام إبله ميرة وثيابا، وقال: انصرف يا بن أخي إلى بنات عمك، فلئن فتشن الحقائب .. ليجدن ما يسرهن، فقال: صدقت وبيت الله.
وذكر الخطيب في «تاريخه»: (عن أبي عثمان المازني قال: حدثني صاحب شرطة معن قال: بينما أنا على رأس معن؛ إذا هو براكب يوضع، فقال: ما أحسب الرجل يريد غيري، ثم قال لحاجبه: لا تحجبه، فجاء حتى مثل بين يديه وأنشد: [من المنسرح]
أصلحك الله قلّ ما بيدي … فما أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهر رمى بكلكله … فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال معن-وأخذته أريحية-: لا جرم والله؛ لأعجلن أوبتك، ثم قال: يا غلام؛ أعطه الناقة الفلانية، وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه) (1).
واتفقت له قصة غريبة في اختفائه، وذلك: أن المنصور جد في طلبه، وجعل لمن يأتيه به مالا، قال: فتعرضت للشمس حتى لوحت وجهي، وخففت عارضي، ولبست جبة صوف، وركبت جملا متوجها إلى البادية لأقيم بها، فلما خرجت من باب حرب-أحد أبواب بغداد- .. تبعني أسود متقلد بسيف حتى إذا غبت عن الحرس أناخ بي الجمل، وقبض على يدي فقلت: ما لك؟ ! فقال: أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت: ومن أنا حتى
_________
(1) «تاريخ بغداد» (13/ 237).

الصفحة 176